شعار قسم مدونات

لماذا تتفكك منظومة الزواج في بلادنا العربية؟!

BLOGS زواج

منذ عدة سنوات وأنا أسمع أن نسبة معدل الطلاق تعدت الأربعين في المئة وأنها مع ذلك في ارتفاع متزايد -هذا الإحصاء يخص مصر وحدها- كنت أسمع فقط لذلك أعتقدت أن هذا الإحصاء لم يخل من المبالغة كعادة الإحصاءات، ثم مرت الأيام فتغيرت أنا ولم يتغير الواقع، ظل ثابتا كما هو فرأيت ما لم أره من قبل، وأصبحت الحقائق تتأكد لدي جدا بعدما امتدت يدها لتطول دوائري المقربة جدا، ففي الأيام القريبة الماضية فسخ أكثر من صديق لي خطبته، والذي نجا من الفسخ وتزوج لم يمض عليه كثيرا حتي انتهي به الأمر للطلاق.

لا شك أن اتخاذ قرار انهاء العلاقة أثناء الخطبة أو بعد عقد القران تصرف طبيعي ومنطقي جدا، بل في الأحيان يكون هو الحل الأمثل والوحيد، لأن عدم التوافق أو افتراض حدوث مشاكل يعجز الطرفين عن حلها، احتمال وارد جدا تفرضه الطبيعة الإنسانية بما فيها من تغير وتقلب واختلاف، لكن نحن هنا لسنا بصدد ذلك فالأن المشكلة قد تخطت حدودها المتوقعة والغير متوقعة حتى أصبحت ظاهرة كثيرة الحدوث والتكرر، بل وصل الأمر عند البعض للتباهي بذلك والدعوة إليه بأشكال عديدة باعتباره شكل من أشكال قوة المرأة وحريتها خاصة حينما تسعي هي لذلك وتحرص وتصر على الطلاق ثم تحتفل بعد ذلك لاعتبار الطلاق مكسب، أو التهوين من الأمر باعتباره أمرا متوقعا، فأصبح يروج لفكرة تزوجنا مدة ثم لم نتوافق فافترقنا هكذا ببساطة، فالزواج يعتبر تجربة مثل العلاقات التي كانت قبله، وأصبح الطلاق الذي كان مجرد ذكر اسمه يحدث جلبة في الماضي بسيطا مثل البلوك على الفيسبوك، لكن مع هذا تظل الحقيقة أن الكل الأن يعترف بأن تفكك منظومة الزواج ليس مجرد مشكلة بل إنها أزمة تهدد المجتمعات على السواء خاصة العربية منها والتي لا تزال تمتسك بمنظومة الأسرة، لأنه بتفكك تلك المنظومة نحن نفتقد أكبر وأهم مؤسسة تنتج وتصييغ الفعل الاجتماعي، إضافة للتساؤل الملح عن شكل المجتمع إذا كانت نسبة الزواج فيه قليلة جدا، والزواج الناجح من تلك النسبة القليقة قليل هو الأخر؟!

هذا في الماضي، أما الأن فإننا في زمن اللايقين، العلمانية فيه شاملة أيضا حسب تعريف عبد الوهاب المسيري الذي فيه انفصال تام بين الدين والأخلاق والعموميات الإنسانية وبين كل مجالات الحياة، كما تسعي فيه الدولة لانتزاع القداسة من الدين

ظاهرة كهذه تفرض نفسها على ميادين البحث والدراسة، فالكل يقدم فرضيات أو حتي نظريات مكتملة لتحليل الظاهرة والوقوف على أسبابها، كل يفعل ذلك حسب تخصصه العلمي أو جملة معارفه التي تمكنه من ذلك، أو حتي على الأقل خبرته في الحياة، وأنا هنا بدوري سأستدعي نموذج زيجمونت باومان السائل الذي شرحه بكفاءة عالية في كتابه الحداثة السائلة ثم سأسقط ذلك النموذج ذاته على العلاقات الإنسانية -موضوع بحثنا- لنري تجلايات النموذج في هذا الجانب، وكالعادة فاختبار النظريات أو النماذج يكون مقدرتها التفسيرية.

يوضح باومان أننا نعيش في زمن سائل لم يعد فيه شئ ثابت أو مستقر، ولم يعد فيه لحظة كمال يسعي الإنسان للوصول إليها وترتب على ذلك انعدام اليقين، وانعدام السكينة والإطمئنان، بل أصبح اللايقين هو اليقين الوحيد، فالإنسان في ذلك العصر لديه الكثير من محاولات التقدم والتحسن لحد لا نهائي كما لديه وسواس تحديثي لكل شئ من دون الرغبة حتي في لحظة كمال يمكن الوصول إليها، وهذا بخلاف الحداثة الصلبة التي كانت لديها حالات من الكمال في مختلف المجالات السساسية والاقتصادية وكذلك ما يخص الإنسانية والاجتماعية عموما.. لهذا فالإنسان في ذلك الزمن يعيش في قلق واضطراب دائمين لأنه مهما بلغ من الكمال يظن أن هناك ما هو أفضل..

ما ذكرته هو صلب نظريته التي إذا تبعنا خطيوها وأسقطانها على الكثير من نواحي الحياة سنري تجلاتها ومقدرتها التفسيرية المرتفعة كما فعل هو في مجموعته السائلة، والحب السائل هو الكتاب الذي يحلل باومان فيه ما طرء من تغير وتبدل على العلاقة بين الرجل والمرأة وما يكون بينهما من حب وجنس. اتفقنا أن زمن الحداثة الصلبة هو زمن اليقين، كما كانت العلمانية فيه جزيئة حسب تعريف عبد الوهاب المسيري أي أن الفصل بين الدين والأخلاق والكليات الإنسانية كان يقتصر على السياسة ورفيقها الاقتصاد وفقط، ولا يتعدي أبدا ليشمل باقي نواحي الحياة، لذلك كان للحب وقتها لحظة كمال يسعي المحبين للوصول إليها، لحظة تعبر عنها مقولة تعاهدنا ألا يفرقنا إلا الموت واستمدت العلاقة بين الرجل والمرءة استمراريتها من دوام الحب الذي ارتبط بالزواج والاستقرار والقرابة والمصاهرة والإنتاج، واستمدت منه الأسرة كوحدة إنتاجية يراودها الأمل في مستقبل أفضل..

هذا في الماضي، أما الأن فإننا في زمن اللايقين، العلمانية فيه شاملة أيضا حسب تعريف عبد الوهاب المسيري الذي فيه انفصال تام بين الدين والأخلاق والعموميات الإنسانية وبين كل مجالات الحياة، كما تسعي فيه الدولة لانتزاع القداسة من الدين والقضاء التام على كل الجماعات الوسيطة، التي تعتبر الأسرة على رأسها. لذلك فالسؤال الأساسي الذي يطرحه طرف العلاقة على نفسه مهما كان سعيدا في علاقته تلك هو ما الذي يدريني أن هذه العلاقة هي ما أتمناه حقا، وأنه ليست هناك سعادة أفضل من التي أشعر بها الأن، وأنه لا شريك أفضل من الذي أنا معه الأن؟ أسئلة كثيرة يملؤها الشك والخوف والقلق والإضطراب من أن تعوق هذا العلاقة إذا استمرت الطرفين من فرص وأشخاص أفضل، لذلك تترجم هذه المخاوف إلى انفصال سريع والبحث الأسرع عن شريك جديد، لذا فكل هذه العلاقات مؤقتة عابرة سريعة الإنقضاء، لأن الهدف منها غاية المتعة، منتهي اللذة وطبعا بلا تبعات، بلا تكاليف، بلا مسؤولية، لذلك تتلاشي كل الأسباب التي قد تجعل هذه العلاقة تأخذ وقتا أطول مثل الزواج والإنجاب، تلك الأسباب التي تحد من حركة الإنسان وحريته -هذا حسب منظومتهم الفكرية- إن الأشخاص في نظرتهم تبلي ويجب استبدالها، كأي شئ أخر مثل الهاتف، أو السيارة.

وبلا شك نتائج ذلك كارثية على الفرد والمجتمع، لكن لا يتسع المجال هنا لبسط تلك الأثار ربما نفرد لها مقالا مستقلا. وتعتبر وسائل الإشباع الجنسي اللا محدودة، وإمكانية ممارسة الجنس خارج منظمة الزواج في المجتمعات الغربية المادية العلمانية تتسق مع هذه النوع من العلاقات بل ربما كانت هي السبب فيه، المشكلة تظهر بنتائج كارثية في الشرق الذي حداثته بين الصلب والسائل، والذي لا يزال للدين والأخلاق فيه بقية وأثر يُعول عليه، وهذا ما أضاف العديد من التشوهات لتلك الظاهرة.

ربما يتعجب البعض ويقول هذا عندهم هناك، فماذا يخصنا من ذلك، أو ما الخيط الرابط بين هنا وهناك؟ أولا لم يعد الأن هنا وهناك فالمساحة تقلصت بشكل كبير جدا بسبب القوي العولمية، ومجتمعاتنا قد تغيرت بشكل كبير جدا، وكذلك تغيرت العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة لتغير الأسباب التي تشكل وتصيغ هذه العلاقة، فوسائل التواصل الاجتماعي، والجامعات التي تجمع الجنسين ولا تضع قيودا على طبيعة العلاقة بينهم، وكذلك خروج المرأة للعمل أنتج نوعا مختلفا من العلاقات بين الجنسين خاصة عن تلاشي أثر الدين وتدني مستوي الأخلاف فصل الدين والأخلاق عن الممارسة العامة أو تأويل لمواقف الدين والأخلاق من العلاقة بين الجنسين -وهذا بلا شك نوع من العلمانية-، أنتج نوعا جديدا من العلاقة مختلفا عما كان قبل ولوج الحداثة إلينا، وما كان في الريف والمدينة على السواء.

هذا النوع الجديد من العلاقة اتسم بالخفة والسيولة والتأقيت، ففي الجامعات مثلا كثير هم من يدخلون عشرات العلاقات ويخرجون منها ببساطة شديدة، علاقات بلا تكاليف أو مسؤولية، أغلبلها على الألة التي تُحل المشاكل فيها بإيموشن قلب أو ورد أو جملة لطيفة إضافة لأن هذا النوع من العلاقات التي عادة لا تنتهي بالزواج لأسباب اقتصادية وأيضا لأن الأختيار حينها يكون أخرقا جدا. نحن إلى هنا نتفق مع الغرب تماما، المشكلة تظهر حينما ينتهي الشاب أو الشابة من هذه المرحلة التي يأتي بعدها للزواج، لأن المجتمع يفرض ذلك فرضا، ولا يسمح بممارسة الجنس خارج هذه المنظة، لهذا فالزواج الذي تقوم فيه النية على التأبيد والدوام والإستقرار لا يستمر لأن الزوجين نفسيتهم مصاغة على نمط علاقات ما قبل الزواج، ولأنهم غير معتادين على تحمل المسؤولية وحل المشكلات بل والأزمات التي تعترض حياتهم، لذلك بمنتهي الواقعية تنتهي هذا العلاقت بالحل السريع الذي اعتادا عليه وهو الانفصال والطلاق لأسباب كثيرة يخفون بها هذه الحقيقة..

الأمر لا يتوقف هنا، بل تزداد المشكلة تطورا، لأن الإنسان يظل إنسانا قبل الزواج وبعده، وتظل رغباته الجنسية والنفسية مستمرة، والسؤال هنا عن كيفية إشباع تلك الرغبات إذا كان الزواج يتلاشي تدريجيا من الخيارات المتاحة، وماذا سيطرء على الأسرة، وما نمط العلاقات التي ستكون بين الجنسين، إذا كان المجتمع يحدد طريقة ممارسة معينة لا يسمح بالحياد عنها، وكيف سينشئ ضحايا هذا الزواج الفاشل، وهل هذا النشئ المشوه نفسيا واجتماعيا سينجح في إقامة أسرة والحفاظ على منظمة الزواج؟

تساؤلات كثيرة والإجابات كلها مفزعة، كلها تذهب إلى المجتمع سيتفكك وسيتغير بناءه بمرور الوقت بعدما يضربه يأكله النفاق من الداخل، حيث سيأتي الوقت الذي لن يستحي الناس فيه من أنفسهم، لا سيما حين يرحل من يقول عيب ويقول حرام ويضيق المسافات ويقلص والمساحات.. فأين نحن وإلى أين نسير؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.