شعار قسم مدونات

كيف وظف النظام السوري الجماعات الجهادية؟

blogs غرباء الشام

لم يكن يخطر ببال أولئك الشباب المتدين وهم يستقلون الحافلات من مختلف المحافظات السورية في صبيحة كل يوم جمعة حيث تهوي أفئدتهم إلى حلب إلى هناك حيث تلك المدينة المختنقة بدخان المصانع والتي لم تكن تعلو أصوات الخطباء فيها على ضجيج الأسواق العامرة كيف لا وهي العاصمة الاقتصادية لسوريا.

في هذه المدينة التي عرف غالب خطباء مساجدها بميولهم للسلطة، يظهر ذلك الشاب الثلاثيني ذي الأصول الكردية محمود قول أغاسي المكنى (بأبي القعقاع السوري) بقامته السامقة ونبرته الخطابية الأخاذة وخطبته البليغة العصماء الممزوجة بحرقة مصطنعة وبكاء صار من روتين الخطبة التي يلقيها، بمضمون سلفي جهادي، يستعير فيها قصائد الجهاد وكلمات سيد قطب وعبد الله عزام وهو يلهب مشاعر الشباب المتحمس لسماع خطبته وهي تتغلغل في مسامعهم كما يسري النبيذ المسكر في رأس المخمور.

لم تكن الخطبة المسجدية والدروس هي الأنشطة التي يقتصر عليها الشيخ وفريقه من الشباب المخلص لدعوته، فقد كان بالإضافة لذلك، يقوم بالمهرجانات الخطابية في شوارع المحافظات السورية أمام مسمع رجال الأمن السوري وبصره في الوقت الذي كانت خطبة الجمعة توزع على خطباء بعض المحافظات بالنص والكلمة.

ولم يحظ الشيخ محمود بمنبر حطابي فقط لينشر من خلاله دعوته الجهادية، وإنما كان يتمتع بمنبر إعلامي أيضاً في بلد لا يعرف إلا منبراً إعلامياً واحداً هو منبر النظام، فكانت (مؤسسة غرباء الشام) وهي المؤسسة الإعلامية التي كانت تنتج الإصدارات المرئية للشيخ من الدروس والخطب والمهرجانات مع مقدمات من مشاهد المعارك والجهاد في الشيشان وأفغانستان، وكانت توزع هذه الأقراص الإلكترونية مجاناً في كل أنحاء سوريا وأمام مساجدها، حيث تصل لكل شاب لم يتيسر له الوصول إلى الشيخ محمود ليسمع منه الرسالة مشافهة.

وحتى يكتمل المشهد التراجيدي والدرامي الملحمي كان لا بد من استعراض شبه أسبوعي تقوم بها دورية المخابرات حيث يعتقل الشيخ محمود بعد خطبة الجمعة مباشرة وكأنه الخطر الداهم والصوت المرعب للدولة، ليطلق سراحه في يوم السبت، وليروي بعدها لأتباعه بطولاته في فروع الأمن وكيف كان يلجم ضباط الأمن بحججه الدامغة وهيبته المهيمنة، ولم تكن تختفي نشوة المريدين وهم يسمعون عن بطولات شيخهم الممتحن، فالامتحان والبلاء هو زاد طريق الجهاد الذي لابد منه وكل من هؤلاء المريدين يتمنى لو يفدي الشيخ بروحه وماله.

لم يكن البعض من السوريين ممن خبروا حقيقة النظام السوري ممن كان لهم معه تجربة مرة، وهو المعروف بعدائه الحاقد لكل ما يمت للحركات الإسلامية بصلة، ينظرون بعين الطمأنينة لخطيب مسجد العلاء بن الحضرمي في حي الصاخور الذي يقع في مناطق العشوائيات والفقر على أطراف مدينة حلب التي يأخذ فيها صراع المشيخات والخطباء طابعاً خاصاً يتسم بالتنافس المحموم على قلب السلطة الحاكمة وجيب التجار.

فقد كان عداء النظام السوري للإسلاميين ينبعث من هوس النظام الدائم في أن خطراً إسلامياً قادمأً على سلطته التي يسعى لتأبيدها في مجتمع سوري محافظ والتدين فيه فطرة أصيلة.  وفي خضم هذا العداء المستميت لم يكتف النظام بالحرب الخشنة كتلك التي مارسها ضد جماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن المنصرم التي وصلت لأكثر من سحن العظام والإبادة الجماعية.

وإنما ابتدع وسائل حرب ناعمة لم تكن أكثر خطورة وفاعلية من تلك الحرب فحسب ولكنها كانت أكثر فائدة وأقل خسارة للنظام، حرب جمعت بين فكرة مصيدة الذباب والاختراق والتوظيف.  فلم يكن الشيخ محمود قول أغاسي في حقيقته أكثر من الجيل الثاني المتطور في حرب المخابرات ضد الجماعات الإسلامية القائمة على ثلاثية التجميع والاختراق والتوظيف.  وبذلك تتحول هذه الجماعات من عدو مكلف الحرب المواجهة إلى عدو مفيد وأداة يستعملها في حماية نفسه.

ولم يكن هذه النوع من الحرب من بدع النظام. ففي أتون الحرب الباردة كانت باكورة الأعمال الثقافية المنظمة لجهاز المخابرات الأمريكية CIA كشف الشيوعيين الأمريكيين أولاً وتعريتهم أمام مجتمعهم.  وجاءت الفرصة عندما قرر الكومينفورم السوفييتي (20 مارس 1949) تنظيم مؤتمر في فندق والدورف أستوريا بنيويورك بجهود الشيوعيين الأمريكيين بغية التلاعب بالرأي العام الأمريكي في عقر داره.  والتقطت المخابرات الأمريكية الفرصة وتغلغلت في المؤتمر ولعبت به بمشاركة الشيوعيين «التائبين» ومن ثم رصدت بسهولة الشيوعيين الأمريكيين وأكثرهم شهرة آنذاك الممثل شارلي شابلن ومارلون براندو.

لقد أراد النظام السوري أهمية أن يقوم بتوظيف شخصية أبي القعقاع لإخراج الشباب الإسلامي التائق للجهاد والقابل للإنفجار بوجهه من جحره المتواري به ووضعه تحت ضوء الشمس مكشوفاً لفروع أمنه، بدون الحاجة لجهد المتحرين والمخبرين، ثم ربطهم بقيادة مخترقة تستطيع أن توجههم حيث يريد النظام أن يستغلهم وظيفياً ثم من نجى منهم من محرقة التوظيف فالمعتقلات والسجون بانتظارهم.

بقي النظام السوري يزج بالجهاديين في العراق ويذكي مع إيران أتون الصراع الطائفي في العراق إلى أن وصلت معه أمريكا إلى التهديد المباشر، إن لم يضبط الحدود مع العراق

وسرعان ما جاء وقت الحصاد والاستثمار عندما بدأ الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 حين أدراك النظام السوري أنه المستهدف بعد النظام العراقي ولكي ينجو بنفسه، لا بد من استراتيجية لتوحيل الجيش الأمريكي في العراق.  وقد قالها عبد الحليم خدام بالحرف في إحدى مقابلاته أن القيادة القطرية اجتمعت بعد احتلال العراق وخلصت إلى أن الهدف الأمريكي بعد النظام العرقي هو النظام السوري، فكان القرار هو توحيل أمريكا في العراق من الجهة القادرة على فعل ذلك إنها التنظيمات الجهادية والشباب القابل لأن يكون في التنظيمات الجهادية.

ومع الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق، تم نقل أعداد من المجاهدين السوريين والعرب القادمين عبر لبنان إلى سوريا باتجاه المحافظات الشرقية الحسكة ودير الزور، حيث قام حرس الحدود بإيصالها إلى “البوابات الحدودية المفتوحة “مع العراق، وقد تواردت التقارير في ذلك الوقت بالتفصيل وهي تتحدث عن وصول عدد كبير من الأشخاص.

في حين أن وزير الخارجية العراقي ناجي صبري ادعى أن 5000 متطوع من جميع أنحاء العالم العربي قد وصلوا خلال أحد عشر يومًا من الغزو، كما إن 1000 فلسطيني من مخيم اليرموك للاجئين خارج دمشق قد قاموا بالتسجيل للدخول بعد يومين. ومع أن أبا القعقاع كان يصرح في العلن أنه ضد الذهاب إلى العراق لكن الجرعات الزائدة التي أعطاها للمريدين وهو يحثهم للجهاد طوال ثلاث سنوات من الخطب والمهرجانات والدروس، لم تكن لتوقفها تلك الممانعة الباردة.

وبقي النظام السوري يزج بالجهاديين في العراق ويذكي مع إيران أتون الصراع الطائفي في العراق إلى أن وصلت معه أمريكا إلى التهديد المباشر، إن لم يضبط الحدود مع العراق، واضطر نوري المالكي إلى رفع شكوى إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة يتهم فيها النظام السوري بدعم الإرهاب في العراق، وهنا كعادته لم يتحرج النظام السوري من طلب كلفة مراقبة الحدود من الامريكان، وبعد القضاء على القاعدة في العراق التي قضت بدورها على فصائل المقاومة العراقية ولم يبق منها إلا بضعة مئات من الرجال، وعودة أغلب المجاهدين السوريين لبلدهم، قام النظام بسوقهم إلى السجون وبقوا في سجن صيدنايا إلى حين أن جاءت السوق الجديد لاستثمارهم لكن هذه المرة في السوق المحلية لمواجهة الثورة السورية عام 2011 بهم.

طبعاً بالعودة إلى الشيخ السوري أبي القعقاع فإنه وبعد احتلال العراق ومقتل رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري نزع عنه لباسه الأفغاني وقصر لحيته الطويلة، ليستعيض عنها ببدلة رسمية أنيقة وربطة عنق وياقة بيضاء إشارة إلى اعتدال الفكر واللباس معاً، وقام النظام بتسليمه مسجداً فخماً في حي راق في مدينة حلب حيث طبقة الأغنياء من التجار بعد أن كان يخطب في حي معدود في العشوائيات وسلمه مدير الثانوية الشرعية ( الخسروفية) ليصيغ عقول الشباب على فكره النير المعتدل الجديد بعد أن تم تنظيف حلب وسوريا من الشباب المتحمس على يد الشيخ نفسه.

لكن لم يطل به المقام حتى عٌقِدَت محكمة غيابية بحقه وانتهت إلى قرار بقتله لأنه يقوم بتخذيل الشباب عن الجهاد ليقضي بعد صلاة الجمعة على يد شاب سوري من ريف حلب الشمالي الذي وجه له رصاصة في الرأس وهو خارج من مسجد ه، وبذلك يغيب الشيخ محمود قول اغاسي عن المسرح وتدفن معه كل أسراره مع المخابرات السورية وتبقى قصته محل جدل كبير بين السوريين إلى اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.