شعار قسم مدونات

لماذا يستثير المساء مشاعرنا المجروحة وذكرياتنا الحزينة؟

blogs الليل

يعتبر الليل مأوى لكل شيء، محطة استراحة يأخذها الإنسان بعد عناء يوم طويل عمل شاق أو وظيفة مملة. تبدو المدن مختلفة في الليل، تبدو بوجه آخر غير الوجه الذي تكون عليه في النهار، من زحمة الحياة وخروج الناس وانتشارهم في الأرض. تخرج في الليل فترى الأبواب مقفلة والنوافذ مغلقة، لا ندري ما تخفي خلفها، بيتٌ مليءٌ بالأفراح، أم مليءٌ بالشقاء والأتراح، لا نستطيع أن نتكهن، فالليل سترٌ ولباسٌ للإنسان وهو سترٌ لسعادته وشقائه. 

يستطيع الليل أن يمدني بالعزم والقوة فامشِ في أزقة المدن لا أخشى أحداً، رغم خوفي من الكلاب السائبة، والليل الذي أعشقه نفسه كان يمدني بالخوف والألم كنت أذكر الليالي التي كنّا لا ننام فيها إلى مطلع الشمس، فأصوات الطائرات لا تتوقف ولا تنقطع، لا أدري أكان حقاً ينام أبي؟ أم أنه يتظاهر بالنوم ليشعرنا بالطمأنينة، لا أدري كيف استطاع الناس أن يناموا في العراء نوماً عميقاً، لم يفيقوا منه بسهولة، لعل التعب أنهكهم فغلبهم النوم رغماً عنهم. 

يتجسد الليل بشكل آخر عندما بتنا ليلة كاملة على الحدود التركية، نلتحف السماء وأسرّتنا الأرض، ست ساعات بالزمن، ولكنه بالطول ست سنين، لحظاتها بطيئة جداً، مع أجواء باردة عصفت بِنَا احرقنا النيران لأجل الدفء

الليل في المدن البعيدة عن الحرب يبدو مختلفاً، أنا أسير الآن فأرى الناس يتوافدون بعدد قليل إلى منازلهم، لأن غالب الناس تنتهي أعمالهم مع أول المساء، المحلات مقفلة، الشرطة منتشرة، ليس للحفاظ على الأمن أو لاشتباك مع متطرفين، بل حفاظاً على البلاد من السرّاق وغيرهم. 

المقاهي مشرعة أبوابها تبدو هادئة جداً فهي خاليةٌ إلا من عاشقين يجلسان في زاوية المقهى يتجاذبان أطراف الحديث ويحتسيان الشاي سوية في ليلة قمرية مليئة بالحب والألفة. الليل وما أدراك الليل، الليل عينه الذي جمع المحبين، تركني لوحدي أصارع المرض أصرخ بنفسي على نفسي، حتى أمي التي كانت تشعر بمرضي من ملامح وجهي لم تعدْ تعلم منذ ثلاث سنوات متى اتمرض ومتى أشفى من المرض، ربما يخبرها قلبها بمرضي، ويكذب عليها لساني الذي يتظاهر بالعافية والصحة والقوة، أجل عاهدتُ نفسي منذ فارقتها، ألا أخبرها بما يؤلمني، أو يشقيني، سأرسل لها كل ما هو إيجابي وفرح، وليكن لنا الشقاء لنا وحدنا.

عوداً إلى الليل، سيتجسد الليل بشكل آخر عندما بتنا ليلة كاملة على الحدود التركية، نلتحف السماء وأسرّتنا الأرض، ست ساعات بالزمن، ولكنه بالطول ست سنين، لحظاتها بطيئة جداً، مع أجواء باردة عصفت بِنَا احرقنا النيران لأجل الدفء، غشي بَعضُنَا النوم تعباً، ليس هذا أحسنُ حالاً من ليالي السجون المظلمة، ظلام في ظلام، تجتمع عتمة الزنزانة مع عتمة الليل لتعطي صورة مؤلمة للقابعين خلف القضبان، في سجوننا العربية التي اشترك فيها الأبرياء وغير الأبرياء في السكنى، من له ذنب ومن لا ذنب عليه.

ليكشف الليل عن أحاديث كثيرة وذكريات حزينة، لينبش كل واحد منهم في سجل الذكريات، يخرج بعضهم صور أطفالهم لينظر إلى ابنه الذي كبر بعيداً عن عينه، ويتذكر الآخر حبيبته التي لم يلحق لوداعها، ويجلس الآخر شارداً بذهنه يسير في أزقة مدينته مُتذكراً اللحظات الجميلة التي قضاها مع رفاقه، ليعود بذهنه إلى عبق الماضي، حين كان يأخذ نظرة عابرة من فتاة جميلة تمر في أزقة المدينة القديمة، نظرة طهر وعفاف، قبل أن تلوث النظرات، كما هو الحال اليوم. 

الليل وما أدراك ما الليل، أحاديث العاشقين، ومراسلات المحبين، وفراق المهجرين عن الأهل والأوطان، وكتابات الشعراء والروائيين، رحلة شاقة ومؤلمة. لو كان الليل يؤجل، لأجلته عن القابعين خلف القضبان، عن النازحين والمشردين، عن العشاق والمحبين، الذين لم يصطلح معهم القدر، ولَم يحالفهم الحظ فكانوا من المفترقين، عن المرضى والعاجزين، عن أمٍ فقدت ابنها الوحيد في الحرب بين المتقاتلين، عمن تهدمت أحلامهم وهم يسيرون، يا ليت لو تكون حقيقة فنحيل الليل إلى محطة أخرى من الحياة. ولكن يبقى الليل بهدوئه وسكينته، مقبرة الذكريات. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.