شعار قسم مدونات

الزواج في مصر.. بين التسليع ومكتب التنسيق

blogs زواج

حدَّثني أبي بينما نحن جلوس كعادةِ أفراد الأسرة كل مساء، أنَّ صديقًا له يبحث عن زوجةٍ لابنه الطبيب، شريطةً أن تكون هي الأخرى طبيبة ولا شيء مهم غير ذلك. تساءلت عن السبب، أفيه بُعدٌ تجاري؟ أم سيقومان بدراسةِ علم التشريح سويًا؟ وجذبني ما يحدث مؤخرًا من نقاشاتٍ حول قضية الزواج، والصعوبات التي ارتبطت به كالغلاء المعيشي ومتطلباته الضخمة، والموجات الصداميَّة التي مفادها "خلِّيها تعنِّس"، أو "خلِّيك في حضن أمك". وما بين موجةٍ وموجة، وبغض النظر أنَّ حضن الأم لا يُقارن بغيره، سنغرق جميعًا في النهاية!

 

بدايةً، سنطوف حول الموضوع هنا من زاويةٍ مختلفة، ربما لن تُعجِب البعض، ولكن لا ينفي هذا وجودها. من البديهي أنَّ كلا الجملتين إسقاطٌ ملتفٌّ على الأهل وعادات المجتمع، لا المعنى الحرفي لهما؛ حيث الأهل هم العنصر الرئيسي في رابطة الزواج من وجهة نظري، لذا سنقسِّم المجتمع المصري إلى قسمين:

 

أولًا، مجتمع مادي رأسمالي

ينظر للزواج كسلعةٍ ماديةٍ بحتة، يقوم الأهل فيه بدور البائع والمشتري، والأفضلية هنا للأكثر مالًا أو سلطة، وليس للدين والأخلاق والصفات الشخصية في هذه الزيجات، إلَّا كنصيبِ الجَرو الصغير من الفريسة. يتحوَّل ربُّ الأسرة هنا إلى صائدِ فرص؛ فيصبح اقتران ابنه أو ابنته ممَّن يُنظر له بالغنا في دائرته هو مبلغ همّه، حتَّىٰ لو كان الأمر ضد رغبة أبنائه أنفسهم، ويظهر ذلك جليًّا في حفلات زفافهم وما يتخلَّلها من مظاهر التبذير والعبث. وقد يتباين هؤلاء في أسلوب معيشتهم ومراكزهم الاجتماعية، ولكن تبقى نظرتهم للحياة واحدة؛ المادة وفقط.

  

إحدى الإشكالات التي تتفشَّى مجتمعيًا وتعتبر الأكثر تغلغلًا بين الكثيرين، والتي نشأت نتيجةً لتلك النظرة التَّقديسيَّة، هي ربط العلم والثقافة بأولئك المنتسبون لتلك الكليات دون غيرهم، وتضخيمهم مجتمعيًا كنوعٍ من المماهاة بين هذه التخصصات وبين الذكاء والتفوق الفكري والعلمي

ثانيًا، مجتمع وسطي متديِّن

وهو ما نخصُّه بالحديث هنا، وهو مجتمعٌ محافظٌ يتمثَّل في أغلبية الشعب، يطمح فيه الأهل إلى حياةٍ كريمةٍ لعيالهم، مع الأخذ بالجانب الديني والتربوي والعلمي لدى الشريك الآخر. ويصاحب غالبًا هذا النمط إشكاليةً متأصِّلةً لدى الأكثرية؛ فيما يسمى "بربط الزواج بمكتب التنسيق" أو الشهادة العلمية. وهنا نُفصِّل، إنَّ "من الأمور المسلَّمة التي لازمت المجتمع المصري بشكلٍ عام، والصحوة الإسلامية في مصر والدول العربية التي تشابهها، هو إقبال الكوادر على الكليات العلمية المشهورة اصطلاحًا بلقب "كليات القمة" كالطبِ والصيدلة والهندسة بشكلٍ مبالغ، واقترن هذا بالخطاب الشائع: الطبيب المسلم، والمهندس المسلم"(1). وقد أحدث ذلك استبطانًا لا شعوريًا للانفصال عن المجتمع، حيثُ تلك الكوادر "الكريمة" هي ركيزة الخطاب الثقافي والثقل المجتمعي على مستوى المهن والنقابات. وقد تمثَّل هذا الإقبال الكثيف نتيجةً لعدةِ أسباب، نذكر منها:

 

– تكوين رأسمال رمزي في المجتمع بسبب الضمان الوظيفي والاجتماعي، ويرجع ذلك في نفس السياق، إلى تهميش مستوى المعيشة لمختلف المجالات الأخرى من خرِّيجي كليات العلوم الشرعية أو الإنسانية. وإحقاقًا للحق، فليس للأهل ولا لأبنائهم سببٌ مباشرٌ في ذلك، بل هو عرفٌ متفشِّي، يقع فيه اللوم على الدولة التى لم تراعي من جهتها جهود تلك المجالات، فنجد أنَّ تلك الأخيرة ليست مما يُطلب في عصرنا، أو لا تعطي العاملين بها ما تعطيه نظيراتها من الكليات العملية -أو العسكرية- من مالٍ ووجاهةٍ اجتماعية، في حين أنه ينظر لها بالبنان في معظم المجتمعات الأخرى التي تحسن التكافؤ بينها. لذا يُنظر للمتقدمين من أبناء تلك الفئات، على أنهم أقل شأنًا من أبنائهم المنتسبين لكلياتٍ مرموقةٍ عظيمة الشأن، وأصبحت تُعقد المقارنات السخيفة بين المجالات العلمية المختلفة، ويكأنَّ هناك علمٌ أفضل من علم، ومجالٌ أرقى من مجال.

 

إحدى الإشكالات التي تتفشَّى مجتمعيًا وتعتبر الأكثر تغلغلًا بين الكثيرين، والتي نشأت نتيجةً لتلك النظرة التَّقديسيَّة، هي ربط العلم والثقافة بأولئك المنتسبون لتلك الكليات دون غيرهم، وتضخيمهم مجتمعيًا كنوعٍ من المماهاة بين هذه التخصصات وبين الذكاء والتفوق الفكري والعلمي، فأصبحت آفةً متأصلة داخل المجتمع، نتعامل على إثرها مع أولئك على أنَّهم من كوكبٍ آخر، ونقدِّس حرفا الدال والميم فلا يصِّحُ النداء بدونهما، والحرص كل الحرص على تسويق ذلك الحرف مجتمعيًا؛ فإن لم يكن حرص صاحبه، فعلى الأقل حرص أهله وأحبابه، ولا معنى من استِحضاره في أي سياقٍ إلا نوعًا من إرادةِ التأثير النفسي؛ فالدال هنا دالُ طبيب! والحقيقة، وبغض النظر عن مكانة تلك المجالات وتأثيرها المباشر على حياة الناس، إلى أنَّ هذا لا يُعدُّ مقياسًا صحيحًا للذكاء أو الوجاهة الفكرية، ولا يشترط ارتباطه وكذا الإلمام -على الأقل- بالحد الأدنى من العلم الشرعي والإنساني، بخرِّيجي تلك المجالات أو غيرها، فهناك مثقَّفون وعلماء خارج أسوار تلك الكليات، بل ويوجد بينهم من لم يتسنَّىٰ له إكمال سُلَّم التعليم الأكاديمي نتيجةً لظروفٍ قهريةٍ حالت دون ذلك.

 

فلا عجب إن اجتاح البعض منهم فقرٌ علميٌ وثقافي خارج حدود مناهجه الأكاديمية، فربما تجد طبيبًا ضيِّقَ الأفق، فارغًا من أي إدراكٍ معرفي، أو مهندسًا غير مُلِّمٍ بأبسط قضايا عصره، فلا يحسن حوارًا ولا نقاشًا يتعدَّى نطاق معرفته العلمية، بل ويتعدَّى الأمر أحيانًا ليطول أساتذة الجامعات أنفسهم. وقياسًا على أمر الزواج فالوضع مشابه، فليس بالضرورة التوافق الفكري والنفسي حتَّىٰ بين أصحاب المهن الواحدة، فقد لا يصلح ذاك الطبيب زوجًا لطبيبةٍ مثله رغم إلمامه بطبيعة عملهما معًا، في حين يمكن لذاك المحاسب أو غيره أن يكون الشريك المناسب لها، إذا ما توافرت بينهما كيمياء القبول ومتطلبات الزواج المناسبة.

 

التشدُّد والاحتكام إلى تلك الأعراف والعادات البالية، دون الأخذ بأسبابِ القبول السليمة، تنتهي مآلاتها غالبًا بالطلاق، أو عند أبواب المحاكم

– والنتيجة أنَّ هؤلاء، أي "شباب الصحوة من الجيل الأسبق من الآباء – وبالأخص التيارات الإسلامية بقطبيها للأسف- والذين أصبحوا كهول اليوم، وقعوا في معضلةٍ مستمرةٍ عن غير قصد؛ ألا وهي حلم تربية الأطفال على نسقٍ ليس له مثيل، ووفق تعاليم الدين الإسلامي، وحين نجح البعض في ذلك لأسبابٍ مختلفة، قذفوا بأبنائهم أيضًا إلى تلك الكليات حتَّىٰ أصبحت ملازمةً لهم، ولم يستطيعوا التخلُّص من إغرائها (2). ولا نزال نتجرَّع الغُصَص إلى اليوم، فأصبحت تلك المجالات -لا غيرها- هي لفت أنظار الطلاب منذ نعومة أظفارهم، يدفعهم نحوها الأهل والمعلِّمين بكل قوة، واندثر تدريجيًا أي شغفٍ نحو مجالٍ أو علمٍ آخر.

 

ثم ينتهي الأمر بالطالب الذي اغتاله التنسيق لسببٍ قهريٍّ أو غيره -كوفاة عزيز عليه أو مرض مفاجئ- فلم يُقدَّر له بلوغ هذه الكلية أو تلك، ينتهي بالعجز والضياع وفقدان الثقة، ويغرق في لُجِّ من القلقٍ والاكتئاب والكبت، وقد يزيد الطين بلَّة تلك النظرة الدونيَّة والتعامل السيء من الأهل؛ فيُدفع بعضهم إلى الانتحار ولن أبالغ. والنتيجة نفسها لمن التحق بإحدى هذه الكليات ولم يكن مؤهلًا لها، نفسيًا أو قدرةً، أو أراد مجالًا آخر؛ فيتعرَّض لذات الضغوط بعد مرور عامٍ أو عامين فقط داخل جدران كليَّته.

  

فلماذا نضع العلوم إذن في قوالب لا يقبلها عقل؟ كيف نحكم على شخصٍ ما من خلال شهادةٍ ورقيةٍ، ونتغافل عن شخصيَّته الحقيقية التي ربما يتفوق بها عن غيره؟ تُرى ما سيحدث إذا استيقظنا فوجدنا أنَّ المنظومة التعليمية قد تغيَّرت فجأة، وأصبح الطبيب أدنى من المعلِّمِ تنسيقًا وراتبًا على سبيل المثال (وأذكر الطب باعتباره الأعلى تنسيقًا بين المجالات)؟ ربما ستتغيَّر اتجاهات الناس وينصرفوا إلى غيره بعد عقدٍ أو عقدين على الأكثر، ولن يطأ بابه إلَّا المحبُّ الحقيقي لمزاولة المهنة، أو لديه شغف دراسة مناهجه.

   

فما هو الحل إذن؟ الحل في مجتمعٍ عقلاني، معتدلٌ في رؤيته، بلا تفريطٍ ولا إفراط، يرى الدنيا من المنظور الذي تستحقه، لا أكثر ولا أقل، ويقدِّس كلمة "الزواج" التي شرعها اللَّه؛ فيدرس فقهه وآدابه، ويرجع إلى دستور ربِّه وسنَّة نبيِّه؛ فيأخذ منهما الأسوة الحسنة التي تُبنى عليها بيوت الإسلام: "مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ"، "فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ". وعليه، فالمطلوب هو الموازنة بين المحاسنِ والمآخذ، وبين النصحِ والتَّوجيه، وما يُؤخَذ به وما يمكن التغافل عنه. فلا يتمسَّك الأهل بالمغالاة في المهور والتكاليف، ولا يلجأوا بجهالةٍ إلى التفريط في الحقوق والالتزامات، والأهم ألَّا يتم ربط الزواج بشهادةٍ؛ ربما يحمل صاحبها من الجهل الفكري والأخلاقي وسوء العشير ما لا يطيقه بشر.

  

علينا بالاعتدال في المتطلَّبات الأساسية التي تعين الزوجين على عيشِ حياةٍ كريمة؛ فلا تكون المادة هي أكبر همّها، ويُأخذ بالتوافق النفسي والفكري والقبول -شكلًا وروحًا- بين الشريكين وكذا الطبيعة الاجتماعية لكل طرف، مع مساحةٍ مناسبةٍ للتفكير دون أي ضغطٍ أو تحكُّمٍ أسري أو خارجي تجاه قراراتهم واختياراتهم. ولنعلم جيدًا أنَّ التشدُّد والاحتكام إلى تلك الأعراف والعادات البالية، دون الأخذ بأسبابِ القبول السليمة، تنتهي مآلاتها غالبًا بالطلاق، أو عند أبواب المحاكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.