شعار قسم مدونات

وهدمت الحكومة سوق العنبريين الأثري!

BLOGS سوق العنبريين

سوق العنبريين؛ ذلك السوق الذي أرخ له المقريزي قائلا: "كان يُسجن فيه أرباب الجرائم… ولم يزل المكان سجنا مدة الدولة الفاطمية ومدة دولة بني أيوب إلى أن عمّره الملك الناصر بن قلاوون وأصبح قيسارية العنبريين في سنة ثمانين وستمائة وعرف بقيسارية العنبر"، كما قال عنه – وعن شارع المعز – على مبارك في خططه: "وهذا الشارع من أعظم شوارع القاهرة وأبهجها… فمن وكائله وكالة يعقوب بك؛ وهي وكالة كبيرة لها بابان أحدهما؛ وهو الكبير بشارع الغورية، والثاني بشارع التربيعة وبداخلها عدة حوانيت وحواصل معدة لبيع الأقمشة والحرير وبأعلاها مساكن، ونظارتها تحت يد خورشيد أفندي".

 

هذا هو السوق الأثري الذي أزيل مؤخرًا، تحت إشراف اللواء إبراهيم عبد الهادي، نائب محافظ القاهرة، وهذا هو السوق الذي بادرت وزارة الآثار أثناء هدمه -متطوعة- على لسان المشرف العام على مشروع القاهرة التاريخية، معلنة بأن المبنى الذي يتم هدمه الآن هو عقار غير أثري! يقع سوق العنبريين – الذي تم هدمه – في قلب شارع المعز؛ أحد أهم شوارع القاهرة التاريخية، وتبلغ مساحته 1250 مـتر، ويتكون من 106 محلات؛ ومرت عليه حقب وأزمنة تاريخية عديدة؛ كالدولة الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، حيث يرجع تاريخ إنشائه إلى ما يزيد على 900 عام، فقد تم البدء فيه عام 517 هجرية، وكان في بدايته سجنا ثم تحول إلى سوق للعطور والعنبر ومن هنا أخذ اسمه الحالي، وفي عهد محمد علي أصبح وكالة رائعة الجمال، وكان وقفا ليعقوب بك صبري أحد مساعدي الباشا، وهو آخر من قام بتجديد المكان والإضافة له، وقبل أن يتوفى يعقوب بك أوصى بربع المكان لزوجته والثلاثة أرباع جعلها وقفا خيريا، وفي خمسينيات القرن العشرين، تم بيع جزء من المبنى؛ فأصبح مملوكا لورثة زوجة يعقوب بك والمشترين الجدد وورثتهم.

 

كل الآثار المصرية -بكل حقبها التاريخية- هي تراث يجب الحفاظ عليه؛ فهل بإمكان وزارة الآثار أن تبين لنا لماذا أصرت على عدم تسجيل هذا الأثر وغيره، وبررت عمليه هدمه

وفي عام 2000 بدأ الملاك الجدد ومسؤولو حي الجمالية العمل على اعتبار المبنى آيلا للسقوط، وفي عام 2005 نشب بالسوق حريق ضخم استمر لمدة ثلاثة أيام متواصلة وظل رجال الإطفاء يحاولون إخماده بخراطيم المياه، مما أثر سلبا على سقفه وجدرانه، وخاصة أن الأسقف منشأة أصلا من الخشب، وما يؤكد أن الحريق – ربما – كان مدبرا هو صدور قرار الحي رقم (14) لسنة 2005 أي بعد الحريق مباشرة؛ والذي نص على هدم المكان بشكل كامل، لكن الأهالي رفضوا القرار، واستمروا في التقاضي فصدر بحقهم حكما برقم 2086 يمّكنهم من ترميم العقار، هذا في الوقت الذي رفضت فيه الوزارة تسجيل المبنى كأثر بتاريخ 6 أبريل 2016، وعندها قام الأهالي برفع شكاوى إلى النيابة الإدارية التي حققت في الأمر؛ وأعلنت من جانبها تشكيل لجنة على أعلى مستوى من أساتذة كلية الآثار ومن أثريين متخصصين لوضع تقرير عن السوق.

 

وانتهت اللجنة إلى أن المواصفات الخاصة بالمباني الأثرية متوافرة في هذا المكان؛ وبناء عليه انتهت التحقيقات بعدد من القرارات والإجراءات من ضمنها توصية وزارة الآثار بالقيام بتسجيله كأثر؛ حتى يتم الحفاظ عليه كجزء مهم من هوية مصر، لكن وفي 22 يوليو 2016 أصرّت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية على رفض تسجيل العقار، ولما سعى الأهالي نحو إصدار قرار آخر يسمح لهم بترميم المبنى إلى أن يتم تسجيله كأثر، صدر بحقهم قرارا آخر في عام 2007 برقم 2032 يمكنهم من الترميم، بل وأيدت محكمة الاستئناف في عام 2009 قرار الترميم، وفي عام 2012 تكررت محاولات الهدم بصورة أخرى عندما تم إغراء أحد الملاك من قبل أحد رجال الأعمال فباع المبنى الأثري، مقابل 11 مليونا، وحينها أعلن رجل الأعمال نيته هدم المكان وتحويله لمول تجاري، وظل الأهالي يعترضون على قرار الهدم ومنعه؛ حتى جاء يوم الاثنين الموافق 11-2-2019 فهدمته الحكومة على رؤوسهم؛ فضاع الأهالي.. وضاع الأثر!

 

وبعد تأكيدي على أن كل الآثار المصرية -بكل حقبها التاريخية- هي تراث يجب الحفاظ عليه؛ فهل بإمكان وزارة الآثار أن تبين لنا لماذا أصرت على عدم تسجيل هذا الأثر وغيره، وبررت عمليه هدمه، في الوقت الذي تسعى فيه بكل طاقتها نحو ترميم التراث اليهودي؛ كما جاء على لسان وزير الآثار، خلال جلسة بالبرلمان يوم الـ 9 من ديسمبر 2018، حين قال: أنا مش هستني حد يقولي خد فلوس ورممه – يقصد التراث اليهودي – لأنه أولوية عندي زي التراث الفرعوني والروماني والإسلامي والقبطي، كما أعلن حينها – قبل أن يتراجع لاحقا – أنه قد خُصص مليار و٢٧٠ مليون جنيه لترميم التراث اليهودي، هذا بالرغم من أن التراث اليهودي في مصر لا يضم أكثر من عشرة معابد؛ كلها عبارة عن مباني صغيرة لا يتجاوز عمر أكثرها عن مائة عام وهي مهجورة منذ زمن طويل.

 

وفي النهاية دعوني أقول.. لمّا كان سوق العنبريين يقع ضمن 600 أثر آخر بشارع المعز، وهو أهم شوارع القاهرة التاريخية؛ التي هي أصلا منطقة أثرية مدرجة على قائمة التراث العالمي منذ عام 1979 ضمن 6 مواقع مصرية أخرى.. فهل بعد إقدام السلطات المصرية وتجرأها على هدم أثر بهذه القيمة، ستقوم منظمة اليونسكو بالتحرك العاجل من أجل محاسبة من قام بهذه الفعلة النكراء تجاه أثر يقع ضمن موقع تراثي مدرج بالمنظمة، علّها تعمل على الحفاظ على ما تبقى من آثارنا بعد أن دمرناها بأيدينا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.