شعار قسم مدونات

كيف يغرق الناس على اليابسة؟!

blogs - مجتمع

اجلس مع صاحبي على مقربةٍ من البحر نتأمل فيه ونحدثه، نخبره عن أسرارنا وأشواقنا، نحدثه عن خيبات أملنا، ونهمس في أذنه نبلغه عن ايّام سعادتنا القليلة، وفِي هذه الأثناء يلتفتُ إليّ صاحبي قائلاً: لماذا كانوا يحذروننا من الاقتراب الى البحر؟  قلْتُ له: يخشون علينا من الغرق، أو أن يهيج البحر علينا فيلتقمنا لنبقى في دهاليزه وظلماته، ونكون بعدها أثرا بعد عين.

 

حقاً لقد غرق أناس كثر فيه وأصبحوا حديثاً يقص لكل من يقترب منه، ألا يكون بمقربته إلا متأنٍ وحليمٍ، فالبحر لا تدري متى تكون ساعة غضبه، فيلتقم الذين يسيرون فوقه، قد تراه وديعاً أحياناً، لكنه يحمل في أحشائه حشداً من الغضب، ولعل هذا الغضب الجاثم في صدره مما سمع من حكايات الألم وخيبات الأمل. يا صاحبي لحظة من فضلك، ترى لماذا نتحدث عن الغرق في البحر؟

 

أيغرق الإنسان في غير البحر؟ أيغرق على اليابسة مثلاً؟

هنا ابتسمتُ وقلتُ له ممازحاً: أجل يغرق الانسان في غير البحر ويغرق على اليابسة أيضاً، لطالما غرقْتُ في عيني جميلة، لدرجة أن الحياة بدت مغلقة تماماً، لم أدرك لحظتها سوى العينين وجمالها ونظارتها، حيث وجدتُ نفسي أجمل مما أتصور، كان وهماً، فانا لستُ جميلاً، غير أن جمال العينين انعكس على محياي فأناره بهجة وسروراً.

 

ما أقسى أن يغرق الإنسان في فكرة يتصورها مقدسة لا يمكن لاحدٍ أن يراجعها أو ينتقدها، أو يحاول تصويبها، فيرى أناساً غرقوا في الدماء لأجلها

يا صاحبي يتصور معظم الناس ان الغرق في البحر وحده، وهم بهذا محقون، لإن معظم الإحصائيات عن غرقى البحار، ومجمل القصص عنهم، ونسي الناس أن يحدثوا بعضهم عن غرقى اليابسة عن الذين يغرقون في الحياة، لو كان الغرقُ واحداً لقلتُ لك: لا تقترب من البحر وستنجو الى الأبد، لكنّه أنواعٌ كثيرة، وأحاديثه أليمة، لان الذين غرقوا في الحياة لم يموتوا ولَم تطو صفحتهم، فقتلهم الندم وهم أحياء، لعل غرقى البحار أفضل حالاً منهم.

 

بعض الناس غرق في تفاصيل الوظيفة والركض وراء العمل متناسياً أن ثمّة حياةٌ يجب أن تعاش ويستمتع بها، لم يخطر على باله، أن يجعل جزءاً من وقته لنفسه، يرفه عنها، ويطورها، ويتأمل في خلجاتها، ويبحث عن أسرارها. منهم مَنْ غرق في التشدد وتعسير اليسر، فلم يرَ من الحياة غير الشدة، ما عرف فيها لينٌ قط، قطع نفسه بالمشقة والعذاب، ولم يقتصر بذلك على حاله، بل شقي بشدته أقوامٌ آخرون.

 

أما عن الذين غرقوا في تفاصيل الاخرين وشؤونهم، يتابعونها ويرصدونها ليلاً ونهاراً، اضاعوا جزءاً كبيراً من أوقاتهم بمقارنة حالهم بالآخرين، لم يفطنوا أن الغرق أصابهم. فيما غرق اخرون في مؤسسات لا تنسجم مع طموحاتهم ولا أفكارهم، حرصوا على البقاء خوفاً من فوات الرزق، غير أن ارزاقاً كانت تنتظرهم في أماكن اخرى. ولعل الغرق المؤلم والشديد وقعه على الإنسان، هو غرقه في فتاةٍ تبدو له فتاة احلامه، ينظر اليها، دون أن يراودها بكلمة واحدة، لتمضي الأيام لتكون مع رجل غيره، لقد غرق فيها هو، لكنه لم تكن تعلم به، فغرقت بحب إنسان آخر.

 

ترى انتهت الرحلة، أم أنها مستمرةٌ يا صاحبي، لماذا تريد أن تجرب الغرق على اليابسة؟ لا أريد أن أغرق ولا أن أُغْرِق أحداً معي، هذا أنت! كم غرق من الناس وأغرقوا أمماً وشعوباً بأكملها، تحولت مدن من الحياة الى الموت، من البناء الى الركام، أغرقوا أنفسهم وأقوامهم. تدري ما أقسى أن يغرق الإنسان في فكرة يتصورها مقدسة لا يمكن لاحدٍ أن يراجعها أو ينتقدها، أو يحاول تصويبها، فيرى أناساً غرقوا في الدماء لأجلها، لتغدو في نهاية المطاف، فكرة بشرية اخترعها إنسان لا يفرق عنّا في شيء، ألبس نفسه ثوب القداسة واعطى لفكرته القداسة، فأضاف لها نصوصاً من القران أو الإنجيل، وضاع نتيجة لهذا أمة من الناس، في جميع الأديان والطوائف والمذاهب.

 

ترى ماذا بقي بعد لقد نصحته كثيراً الا يقترب من البحر خشية عليه من الغرق، ولَم يكن يخطر بنفسي يوماً أن يغرق على اليابسة، غير أنه غرق فلم يسعفه أو ينجده أحدٌ. ليبقى السؤال الخالد، متى ينجو الإنسان من الغرق على اليابسة؟ متى ينجو من الغرق في الحروب والصراعات، الغرق في الأفكار المتوهمة، الغرق في تقديس البشر وتبجيلهم وتعظيمهم، الغرق في تفاصيل الحياة بصورة مبالغة جدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.