شعار قسم مدونات

تأخير الزواج.. هل يوجد حقا شريك مثالي؟

blogs زواج

إنَّ ظاهرة العزوف -الاختياري وليس القسري- عن الزواج لدى الشباب تعتبر مادة دسمة للنقاشات اليومية، ولكن من الملاحظ في أغلب الحالات انقسام المتناقشين إلى جبهتين واحدة للمعارضين وأخرى للمبررين على طريقة السياسيين واقعين في فخ التفكير الثنائي وينتهي النقاش العقيم وقد زاد كل طرف تمسكاً برأية واقتناعاً به. وفي تصوري لكي يكون نقاش كهذا بنَّاءً يلزم عدم النظر إلى الأمر بتصور ثنائي البعد باعتباره إما صواباً أو خطأً، ولكن بالرجوع خطوة إلى الوراء والنظر إلى الأمر بتجرد وشمولية محاولين الأخذ بالاعتبار أبعادا مختلفة لتحليل الظاهرة ثم فهم كل بعد بعمق ومن هاته الإبعاد "تصور الزواج" أي قد نجد معارضا لـتأخيره ومبررا لذلك لكن يتفقان في تصورٍ للزواج ونجد أيضا معارضين مثلا ولكن بتصور مختلف تماما له، والواجب تصويب ما شذَّ من هذه التصورات وتثبيت ما كان موفقا منها ولا يكون هذا إلا بفهمها وإدراكها أولا وتبسيط ما تَرَكَّبَ منها، ومن هذه التصورات غير الموفقة والشائعة والتي قد يحملها أفراد من الفريقين:

تصور تأخر الزواج مرضا وليس عرضا

الإنطلاق من التسليم بأن تأخير الزواج مخالف للفطرة السليمة والعلم بأنه ذو تأثير سلبي من ناحية حيوية سواءً على الخصوبة أو صحّة النسل كما تدل عليه عدة دراسات، قد يؤدي إلى تصوره مشكلة في ذاتها وليس نتيجة لظروف نفسية، اجتماعية أو اقتصادية… ولعلاجها يبرز إلى الساحة من يسرد النصوص الدينية الوعظية مبشرا المتبعين ومنذرا المخالفين من برجه العاجي في خطوة هدفها توظيف الوازع الديني لحل المشكلة ونتيجتها إيجاد هوة بين الدين والواقع، ويظهر أيضا من يحلل الدراسات العلمية عن تأخر الزواج فيسرد الأرقام ويسطُر النتائج بمادية فجة، وكِلا النموذجين يغفل عن تناول الأسباب الحقيقية للمشكلة وجذورها، وقد يؤديان إلى تصوير العازب مريضا نفسيا مخالفا للفطرة السوية يجب إصلاحه لأنه معطوب وربما يتبنى حتى هو هذا التصور عن نفسه، وينتج عن محاولة إصلاح المشكل خلق مشكل أعوص، ولتفادي هذه النتيجة على الخِطاب أن يراعي الأنماط المختلفة لحالات العزوف عن الزواج ويتكيف حسبها، فمن يخشى من العائق الاقتصادي فالأولى -مثلاً- أن يحاضر في طرق الاستثمار -البسيط- وأهميته وليس في بيان فوائد التبكير بالزواج، والموازنة بين الأمرين فأحدهما لا يلغي الآخر. ومن يشعر بعدم الكفاءة وضعف الثقة في النفس لتحمل المسؤولية يكون الحل بتوجيه ودعمه نفسيا من طرف المختصين وبيان أن النضج عملية تستمر طول الحياة وليس حالة ثابتة يمكن بلوغها وليس بالتركيز على سلبيات تأخير الزواج وعواقبه.

تصور الزواج محطة وليس رحلة
التصور المثالي للزواج والحياة بشكل عام لا يفضي إلا إلى نتيجتين، إما الإصطدام العنيف بالواقع أو الإنفصال التام عنه وعيش الشلل والعدمية

لطالما ترددت على الأسماع عبارة "قطار الزواج" ولسنا ندري هل الزواج هو القطار بمساره الكامل نستكشف مختلف وجهاته ومسالكه ونستمتع بمعالمها أم أنه إحدى محطاته فقط ننزل فيها ونستقر إلى الأبد؟ يتصور البعض الزواج كانتقال جذري من الفردية الحرة إلى الارتباط المقيد والانتقال من عالم متغير ومشوق إلى عالم رتيب وممل، ويربط بينه وبين تعطيل أو إعاقة المسار الدراسي أو المهني أو غيرهما. قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً. والسكون مرادف للهدوء والطمأنينة وضده الاضطراب والقلق وليس كما قد يفهمه البعض تعطلاً وخمولاً وتركاً للسعي والتطلع للأفضل، بل إن الطمأنينة والراحة النفسية عاملان محفزان لترقية النفس وتطوير الذات أما الاضطراب والتشتت فهما عاملان مثبطان لهما. ومما يرسخ هذا التصور عبارة "القفص الذهبي" فتبني هذا التصور يجعل العيش في قفص واقعا مشاهدا وحقيقة ملموسة أما إدراكه وتجنبه يجعل الواقع مقاوما له -على الأقل نسبيا- ولكلا الحالتين نماذج يمكن ملاحظتها في الحياة عند الكثيرين.

ولعل هذا التصور يمكن تمثيل نقيضه من وجهة نظر اقتصادية بالقول أنّ الزواج رأس مال للاستثمار الفعال لا للتملك الجامد والمستثمر الناجح مغامر يملك رؤية استشرافية للمستقبل بناءً على معطيات الحاضر متصورا مجالا بين النجاح والفشل ومستبقا لآليات التعامل مع الأول من أجل تحقيق الاستقرار ثم النمو، والثاني بهدف احتواء الضرر وتحجيمه ثم الإصلاح، على أن تتحدد تفاصيل هذه الآليات كردود فعل متكيفة مع النتائج المستجدة. فعلى القادر على الزواج ألا يهدف إلى امتلاك تفاصيل مستقبله ولكن إلى الاستثمار فيه والتفاعل معه وذلك بعد توفر الحد الأدنى من الظروف اللازمة وإلا لم يراوح مكانه يفكّر ويقدّر.

التصور الأفلاطوني للزواج

من العوامل المساهمة في خلق التصورات المثالية للحياة الخلط بين كون تعاليم الدين كاملة وواقع التديّن الذي لابد وأن يطاله النقص وعدم التفريق بين الأمرين، ويبرز في عصرنا عامل تأثير الإعلام والإنتاج السينمائي بسيناريوهاته غير الواقعية تماما من أجل جذب المستهلكين وتحقيق المبيعات، ويضاف إليهما دور مواقع التواصل الإجتماعي حيث يتبادل المستخدمون التأثير بخلق شخصيات افتراضية موازية لشخصياتهم الحقيقية بشكل انتقائي يهمل السلبيات والعيوب ويركِّز على الإيجابيات والمزايا ثم يتورطون في لعبة مقارنة الأنا التعيس والآخرين الكاملين والمرحين والسعي لبلوغ سعادتهم الوهمية، ولعل ما يزيد الطين بِلَّة أن تكون المقارنة مع أصحاب الشهرة والتي تكون فارغة في أحيان كثيرة، ويكون الاصطناع في حياتهم حاداً أكثر، بل ومزمناً.

رحلة البحث عن الشريك المثالي رحلة طويلة لا تنتهي مهما طال الزمن وامتدت السنين ومرادٌ لا يُبْلغ وإن بُلغ وُجد مجرد سراب بقيعةٍ، لأن التصور المثالي للزواج والحياة بشكل عام لا يفضي إلا إلى نتيجتين، إما الإصطدام العنيف بالواقع أو الإنفصال التام عنه وعيش الشلل والعدمية. لتحييد هذا التصور كعقبة أمام الزواج يلزم إدراكه أولا ثم الاعتراف بالعيوب الذاتية وتقبل عيوب الآخرين محاولين إصلاحها والسعي إلى التوافق الفاضل لا التطابق الكامل وتحيّن الظروف المناسبة لا المثالية، قال النبي ﷺ: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطّائين التوابون".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.