شعار قسم مدونات

قوة الضعف وضعف القوة

Blogs مجتمع

لأساليب الصراع والمنافسة والمناجزة تقاليدها المألوفة ومناوراتها المتجددة، في تعظيم القوى الذاتية واستهداف نقاط ضعف الخصوم أو المُنافسين، فما من دابّة في الأرض إلاّ وتنطوي على مكامن ضعف مُحتَملة. لكنّ الأبصار تغفل، عادةً، عن أنّ القوّة ذاتها تستصحب ضعفها وإن استعلى جبروتُها، وأنّ الضعف يتلازم مع قوّته أيضاً وإن لم يُتوَقّع هذا منه، وهو ما يتجلّى بأقدار نسبية متفاوتة في الواقع.

 

يُعايِش البشر في حواضرهم هذا المعنى عندما تختنق طرقاتهم بمركبات كبيرة، ثم تتسلّل عبر الزحام العالق دراجاتٌ نارية رشيقة تبلغ مقصدها بتدفّق خاطف عبر الثنايا، وهي مرونة تُلحَظ في انسياب الماء عبر الشقوق وقد يصير سيْلاً يجرف ما في طريقه.

 

قد يتأتّى الانتصار في منازلة غير متكافئة لمن أدرك مواطن الضعف لدى خصمه واستثمر مكامن القوة لديه، أو استشرف التحوّلات المتسارعة وما تختزنه من انقلابات محتملة في مفاهيم القوّة والضعف. ومن عظات التاريخ أنّ شعوباً مقهورة وظّفت ضعفها المادي في إنجاز انتصارها المجيد على قوة عدوِّها، وهي فكرة مؤسِّسة لخبرات المقاومة الشعبية وحروب العصابات وتجارب غير عنيفة، تقوم في بعض صورها على استلهام خيارات بدائية في مواجهة تقاليد عسكرية نظامية أو مؤسسات الهيمنة والسطوة، وهي عبرة لا تقتصر على فنون الحرب والصراع والمواجهة.

 

دروس من فلسطين
جرّبت المقاومات الشعبية وحركات التحرّر أساليب شتى في هذا الاتجاه، حتى أنّ مغزل غاندي اليدوي البسيط أعجز منظومةً استعمارية عملاقة استبقت العالم في الإنتاج بالجملة

أقامت القاعدة الحربية الضخمة في فلسطين منظومةً عملاقة استنزفت دعماً أمريكياً وإمداداً أوروبياً وخبرة عالمية، لكنّ "القبّة الحديدية" المكرّسة لصدّ المقذوفات الصاروخية ربضت عاجزة في مواجهة منفوخات طائرة وقصاصات ملتهبة بعث بها فتية عزّل من وراء الأسلاك في قطاع غزة إلى حقول استلبها المستوطنون الغزاة لتحصدها عن آخرها. لا تقضي القصاصات والمنفوخات بنهاية القوّة الجرّارة؛ لكنها تُحَيِّد مفعولها في هذا الميدان وترفع ضريبة الإقامة في ديار مُغتَصبة؛ وهو ما يتأتّى بقوّة الضعف أساساً التي تستدرج القويّ إلى مُنازَلة حدّد "الضعيف" شروطها ولم يتأهّل "القويّ" للمواجهة فيها.

 

لا يقوى الضعفاء على مجاراة الأنظمة التقنية المعقّدة في المجالات كافّة، لكنها قد ينجحون في تعطيلها أو إعاقتها أو تقليص جدواها. تطوّرت في "مسيرات العودة وكسر الحصار" بدءاً من ربيع 2018 خبرات الفتيان العُزّل في إنهاك منظومات عسكرية متطوّرة تتبع قاعدة الاحتلال الحربية الضخمة التي تحاصرهم. من ذلك مثلاً أنّ "وحدات الإرباك الليلي" المدنية تسهر في منتصف الليل على افتعال ما يُشبه ألعاباً بهلوانية باستعمال ألسنة اللهب وإطلاق أصوات موجّهة؛ فأجهزت بأساليبها هذه على معنويات الجنود المحتلين ومستوطنيهم المذعورين في مخابئهم.

 

قبل عقود من هذه الخبرة المستجدّة؛ جرّب صِبْيةٌ حاذقون خلال الانتفاضة الشعبية (1987 – 1993) خبرات التنكيل المعنوي بجنود دفع بهم جيش قيل إنه "لا يُقهَر" إلى شوارع المدن والقرى لمطاردة الأهالي والأطفال. تناقل المجتمع الفلسطيني حكايات صيغت بقالب أسطوري لوصف مطاردات عكسية؛ جاء في إحداها أنّ صَبيّاً قضم ثمرة باذنجان ثم ألقاها سريعاً صوب عربة جند فاضطرهم إلى الانبطاح أرضاً هَلِعين بعد أن حسبوها قنبلة يدوية. وقيل أيضاً إنّ أطفال البلدات القديمة في نابلس والخليل ربطوا صفائح فارغة بأذيال القطط خلال حظر التجوال الليلي؛ فاندفعت الكائنات المسكينة بها عبر الأزقة محدثة دويّاً في الظلام دفع بالغزاة المدججين بالسلاح إلى خوض مطاردات لتعقّب مصادر التهديد المُحتَمل. لا يهمّ هنا إن كانت المروِّيات دقيقة تماماً؛ فالمغزى من حكايات الأهالي الشيِّقة أنها عبّرت عن اكتشافهم قوّة كامنة يختزنها ضعفهم الظاهر، فواجهوا بها سطوة قوّة تخور في منازلات ذكية كهذه. إنه منطق تقوم عليه دراما الرسوم المتحركة؛ كما في الثنائي "توم وجيري"، فالصغير ينتصر على الكبير بحِيَل الاستدراج المحبوكة بعناية، ويصير الكبير الضخم بالتالي مادةَ إضحاك وسخرية.

 

جرّبت المقاومات الشعبية وحركات التحرّر أساليب شتى في هذا الاتجاه، حتى أنّ مغزل غاندي اليدوي البسيط أعجز منظومةً استعمارية عملاقة استبقت العالم في الإنتاج بالجملة. راهَنت فلسفة المغزل البدائي على الإنتاج من جملة الجماهير في مواجهة الإنتاج الاستعماري بالجملة؛ فسعت لأن يكون لكل بيت هندي مغزله المستقلّ عن منظومة الهيْمنة الإنتاجية الكمِّية الرابضة على شبه القارّة، فما عساها أن تفعل مع هذا الخيار غير المحسوب؟ مَن بوسعه أن يُلجئ أسرةً هندية في حاضرة أو قرية على شراء قسري من صناعات المُستعمِر؟

 

يتجرّع محتلّو فلسطين مرارة هذه الخبرة اليوم، فهم يستشيطون غضباً لمجرّد امتناع فنّان أو إحجام فنّانة عن إقامة حفل في ضيافتهم؛ استجابة لنداءات المقاطعة الثقافية. ألقت حكومة نتنياهو المتطرِّفة بثقلها لثني الشابّة النيوزيلندية التي تحمل الاسم الفني "لورد" عن قرارها عدم الغناء في حضرة الاحتلال. توسّل وزراء وسفراء ووسطاء للمغنية العشرينية كي تحيد عن قرار الامتناع هذا؛ دون أن يُفلِحوا معها. أعجزتهم شابّة نحيلة وأدركوا أنّ ما بوسعهم إرغامها على الغناء لمجتمع الاستيطان و"الأرباتايد"، ثم اقتفى مغنّون ولاعبون آثارها من بعد وبادروا تباعاً بإلغاء زيارات وفعاليات ثقافية أبرموها مُسبقاً؛ أو رفضوا دعوات مغرية تلقّوها من محتلِّي فلسطين. أغضبتهم "لورد" بقرارها فاختصّوها بحملات تشويه ضارية، إلى درجة نشر إعلان مدفوع الأجر في "واشنطن بوست" للتشهير بها على صفحة كاملة ظهرت في آخر أيام سنة 2017، وبلغ بهم الحدّ أن اتهموها بالتطرّف و"العداء للسامية" لأنها لم تُغَنٍّ لهم. يكشف المثال عن ضعف أولي السطوة الذين تأسّست قوّتهم المادية على عقدة وجودية متأصِّلة وخشية عميقة من مآلات تجربة الاحتلال الاستيطاني المُصطَنعة.

 

فلسفة الجرح والألم

تتعاظم قوّة الضعف عند التفريق الحصيف بين الجراح والآلام. فالجرح المادي لا يستدعي الألم المعنوي بالضرورة، والإحساس بالأوجاع يبقى نسبيّاً بين المجتمعات كما بين الأفراد. تنجح بعض المجتمعات في احتمال جراحها وكبح شعورها بالآلام إلى أقصى مستوى، بينما تتضعضع غيرها تحت وطأة خدش عابر. تتدخّل في حالات المقاومة والتحرّر مفاهيمُ معزِّزة لهذا التجلّد؛ كالتضحية والبذل والتضامن الجماعي والاحتساب عند الله، وإعادة تعريف الموت ذاته عبر نسق قيمي يستمدّ مرجعيّته من إيمان دافئ ويتأسّس في مبرِّره على عدالة الموقف والقضية. قد يستهين حامل الجرح أو الإعاقة بذراع مبتورة وعين مفقوؤة، وهو الذي أبصر أشلاء مسحوقة مِن حوْله، بما يقوِّض مغزى القتل والتدمير الذي يروم الردع والترهيب، فكيف إن استنفرت فظائع الغزاة روح التضحية في مواجهتها؟

 

لا عجب أن تفقد قذائف المعتدين قدرة الإيلام والردع في مجتمعات صامدة، وأن تتحوّل بقايا صواريخهم الفتّاكة إلى تذكارات من ليالي القصف، وأن يعدّها أطفالٌ دمّر القصف ملاعبهم أداةً مثالية للّهو. لا شيء أصدق تعبيراً عن هذا المعنى من صورة صغار رائعين في غزة أبهجتهم قذيفة عملاقة استقرّت في حيِّهم السكني؛ فاتخذوها حصاناً يركبونه في صيف 2014 بعد أسابيع من القصف الضاري. في بيئات أخرى؛ كانت المنطقة برمّتها ستُخلَى قسرياً لنزع احتمال الخطر المتفجّر، لكنّ معادلة الخوف والرهبة تعطّلت في غزة، في تطوّر معنوي مُذهِل لقوّة الضعف بعد عقود سبعة من النكبة، بما يفرض على منظِّري الاحتلال تكثيف هواجسهم المتشائمة من مستقبل يستشرفونه؛ كما يفعل المؤرِّخ بيني موريس مثلاً. فلا يسع العين الفاحصة أن تعمى عن اختباء المحتلّ المدجّج بالقدرات المتفوِّقة إزاء الأعزل الذي يتقدّم نحوه بصدره العاري، ففي هذا المشهد تفقد رصاصة السطوة مفعولها الرادع ويَعزِل الضعيفُ جرحه النازف عن بواعث إحساسه بالألم؛ فلا يصرخ الجرحى ولا يعلو عويل ذوي الشهداء، بل تتأجّج حماستهم ويتقدم حشدهم بأقدام ثابتة وإرادة متأجِّجة.

 

ردم فجوة القوة
لا تبقى "دولة عظمى" على حالها أبدَ الدهر وإن لم تَغِب الشمس عن رقاعها، وهي من عظات الماضي والحاضر. علّة الأمر أنّ "الدول العظمى" ترى في العالم بأسره "مجالاً حيوياً" لها

قد تقتضي المنافسة القائمة على اختلال في موازين القوى؛ ردمَ فجوة القوّة القائمة بين الأطراف؛ أو تحييد مفعول التفوّق ذاته؛ أو الاستثمار في المزايا التنافسية التي يُتيحها الضعف، وقد تذهب المساعي إلى محاولة التأثير في المعادلة المختلّة ذاتها باستدراج عناصر جديدة إليها أو بتفكيكها أو بإعادة توجيهها، وهذا غيْض من فيْض ما يُلجَأ إليه من الخيارات.

 

بَرهَن التفوّق المعنوي على جدواه في ردم فجوة القوّة المادية، فإرادة الضعفاء المُقتحِمين قد تقهر خوار الأقوياء المتحصِّنين. تُعيد الإرادةُ الجسورة تعريفَ الحصن من تعبير مرئيّ عن القوّة والمنعة إلى تجسيد فعلي للخوف والتقوقُع. أطلق المصريون تكبيراتهم وعبروا قناة السويس في حملة رمضانية خاطفة مشحونة بالإيمان والإرادة الجامحة، بعد سنوات مديدة قضاها المحتلّون في حصونهم الحصينة على الضفة الشرقية للقناة وقد أسكرتهم نشوة الظفر اليسير الذي حققوه من قبل.

 

انهارت أسطورة خطّ بارليف الحصين في سويعات بما أعاد إلى الأذهان عجز منطق الأسوار والحصون عن تحقيق الحماية المنشودة في لحظة الحقيقة؛ بدءاً من سور الصين العظيم ووصولاً إلى خط ماجينو الدفاعي الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، وهي عبرة أشدّ وطأة بالنسبة لأي قوّة احتلال عدوانية تراهن على الاحتماء بالأسوار التي يمكن تجاوزها بخيارات شتى. إنّ الجدُر العملاقة التي يشيدها محتلّو فلسطين في اتجاهات شتى؛ من حول القدس والضفة والقطاع وسيناء والعقبة ولبنان والجولان؛ هي تعبير عن مأزق تاريخي تواجهه قوى الاحتلال في جغرافيا التوسّع التي يُهَيْمنون عليها، لكنّ السور المتعالي على الواقع يعجز في نهاية المطاف عن حجب طائر محلِّق أو حجز دابّة الأرض التي تأكل من أرض غُرِس فيها؛ ولكل منهما ما يحاكيه من فعل البشر في اختراق الحواجز وتجاوُز العوائق.

 

حتمية الانكفاء الإمبراطوري

تترتّب على فائض القوّة أعباءٌ قد تُضعِف القوّة ذاتها أو تكبحها أو تتثاقل بها إلى الأرض، وإن أحرزت القوّةُ مكتسباتٍ مرئيّة فإنّ الاحتفاظ بهذه الأخيرة له كلفته المؤكّدة. فمِن ضعف القوّة أن تنهمك أممٌ "قويّة" في تعزيز قدراتها باطِّراد وتوسعة سلطانها بلا حدّ، حتى يبلغ التعاظُم والتطاوُل لحظةً لا يُقتَدَر فيها على كلفة الاتِّساع المتواصل أو احتمال أثمانه وعواقبه.

 

لا تبقى "دولة عظمى" على حالها أبدَ الدهر وإن لم تَغِب الشمس عن رقاعها، وهي من عظات الماضي والحاضر. علّة الأمر أنّ "الدول العظمى" ترى في العالم بأسره "مجالاً حيوياً" لها، بما يُلجئها إلى استجماع قوّة ضاربة وسطوة رادعة تُرهِب بهما الأمم. تضطرّ "قوّة عظمى" إلى تعظيم قدراتها باطِّراد؛ لأنّ الثبات عند منسوب محدّد هو أمارة ضمور ومؤشِّر انكفاء، ويستمرّ المنحى إلى أن تبلغ أثمان التوسّع والتعاظُم حدّاً لا يُحتَمل وإن نُهِبت خيراتُ أمَم وسُلِبَت أقواتُ شعوب، فكيف إن استثار النّهْب والسّلْب رفضاً ومقاومةً من الضحايا والمتضرِّرين في عاجل الأمر أو آجله؟!

 

يزيد التمدّدُ فرصَ التعرُّض لضربات مُوجِعة أو وخزات مناوئة، وهو ما جرّبه الغزاة في بلدان بعثوا إليها بقوّاتهم ثم صارت خطوط إمدادهم أهدافاً ميسّرة للاصطياد الذي يُتقنه المحلِّيُّون في بيئاتهم. كانت خبرات الغزو المباشر في فيتنام وأفغانستان والصومال والعراق مؤلمة إلى حدّ دَفَع إلى مراجعة جوهرية لاستراتيجيات التدخّل لدى الأطالسة رغم أنهم أجهزوا بسهولة على جيوش جرّارة بفجوة القوّة النظامية المنعقدة بالتفوّق العسكري والتقني. تَميلُ التوجّهات المستجدّة إلى خوض حروب غير مباشرة عبر أطراف ثالثة أو باستعمال وكلاء محليِّين يتكفّلون بالاحتراب الذي يستصحب ذرائعه، وهو ما تنصّ عليه توجّهات استراتيجية منشورة على الملأ. مغزى التوجّه هو التطلّع إلى تقليل الكلفة بالتضحية بالآخرين أو وضع صراعاتهم الداخلية أو البينية، وبعضها مُفتعَل ومحبوك؛ على مسارات استراتيجية يتحرّاها "الأقوياء" بتسخير شعوب وقبائل لمصالحهم.

 

إنّ الأمم التي تتجلّى قوّتها في منسوب رفاهها تتضاءل لدى جمهورها إرادة القتال وجاهزية التضحية، وقد ينتابها هلع من خدوش تُصيبها، بما يحفِّزها على إبعاد إنسانها عن ميدان المواجهة باستعمال خيارات بديلة، كأن تتوسّع في استعمال التقنية بدل الزجّ بمواطنيها في المواجهات. لكنّ التقنية البديلة عن البشر، مثل الطائرات المسيّرة بدون طيّارين، غير قابلة للاحتكار؛ فبعض أنواعها مُتاح لبعض "الضعفاء" أيضاً. ومن المرجّح أنّ التوجّه إلى توظيف الروبوتات بدل البشر المقاتلين لن يعمل باتجاه أحادي؛ فقد يُتاح إنتاج نسخ شعبية من بعض أجيالها أو قد تتهيّأ للضعفاء ببعض المعرفة؛ السيطرةُ عليها وإعادةُ توجيهها فتنقلب على أعقابها خاسرة ويحيق المكرُ التقنيّ بأهله.

 

التطور الشبكي وبيت العنكبوت

إنّ بدا الانغماس في العصر الرقمي من مقتضيات التحديث والتقدّم؛ فإنّ الاعتمادية الشبكية أورثت المجتمعاتِ الحديثةَ هشاشةً من حيث لم تحتسب. جرّب العالم هاجساً جماعياً مع انعطافة الألفية عندما علت تحذيرات "الخبراء" من أنّ حواسيب الأرض لم تتكيّف مع التحوّل إلى سنة القرن الجديد (2000)، والتي يُشار إليها بصفريْن اثنيْن، وهما الرّمز ذاته لسنة سبقتها بقرن كامل (1900)، فجاءت النُّذُر بأنّ هذا التماثُل الرقمي قد يُفضي إلى كوارث في البرِّ والبحر والجوّ جراء اضطراب حاسوبي بدا مرتقباً. انقضت فقاعة الهواجس بسلام مع انعطافة الألفية بعد أن ضمنت للقطاعات التقنية عوائد مذهلة من خدمات الدعم والتحديث، لكنّ هواجس البشر من ضعف القوّة وهشاشة الأنظمة أخذت تتفاقم. ألهمت هذه الهواجس أعمالاً روائية وأفلاماً سينمائية تعاقبت عن انهيارات جسيمة ستعصف بنظم التشغيل، جراء تلاعُب أصابع فتى بارع أو مبرمج مَهووس بهذه النظم من رُكنٍ قاصٍ في هذا العالم.

 

لا تبتعد الهواجس عن الواقع؛ فالقرصنة الشبكية تتقدّم في تصنيفات المخاطر التي تخشاها الدول القوية، وصار التلاعبُ الشبكي شبهةً حاضرة في مواسم الاقتراع الجماهيري على جانبي الأطلسي التي تركن إلى نُظُم محوسَبة تثور الشبهة بأنها قابلة للإخضاع من حيث لم يحتسب أربابها. قد ينجح فتى بارع في السيطرة من مرآب منزله على خزائن معلومات خاصة بدول ومؤسسات وشركات بمهارة اكتسبها في القرصنة؛ بما يكشف عن انقلاب نسبي في مفهوم القوّة ذاته الذي يُعادُ تعريفه بالنظر إلى التحوّلات التقنية والاتصالية المتفاعلة في عالمنا. أفضت هذه التحوّلات إلى تمليك الأفراد أدواتٍ احتكرتها الدول والسلطات والمؤسسات حتى نهاية القرن العشرين. صار الفرد القابع خلف الشاشة مؤهّلاً من فوْره لخوض المبارزات مع دول وأنظمة ومؤسّسات، كما في حالات مشهودة يجسِّدها نموذج الأسترالي جوليان أسانج، مثلاً، الذي أشغل العالم منذ سنة 2010 بتسريبات "ويكيليكس" التي صدّعت رؤوساً كبيرة في عالمنا وفتحت من بعده باب التسريبات المُعولَمة الذي لا يُسَدّ.

 

تحولات القوة والضعف
لم يدرك بعضهم عمق الانقلاب الذي يشهده البشر في توازنات القوّة، ومن ذلك أنّ قوّة الترويج الهائلة التي تحوزها شركات متعددة الجنسية تواجه مأزقاً متعاظماً مع أفراد الحاضر والمستقبل

من الأخطاء المنهجية الشائعة استبعاد مفعول المتغيِّرات في معادلة القوة والضعف؛ رغم أنّ المتغيِّر قد يمنح عناصر في المعادلة وزناً مضاغفاً أو يحيِّد عناصر أخرى ذات سطوة. قيل مطلع سنة 2017 مثلاً: كيف سينجح دونالد ترمب في مواجهة وسائل الإعلام التي يناوئها؟ وكيف له أن يصمد في البيت الأبيض مع اهتمام صانعي الأخبار بقضايا تُطارده؟ غفل المنشغلون بأسئلة كهذه عن المبارزة المذهلة التي سيخوضها الرئيس الجديد مع وسائل الإعلام وبعض مراكز القوى بمنطق الزمن الجديد، وهذا لأنهم عقدوا مقارنات ساذجة مع خبرات استلّوها من قرن مضى حازت الصناعة الإعلامية فيه سطوةً احتكارية لا تُزاحَم.

 

ما اتّضح للعالم أجمع أنّ ترمب لم يُهادِن وسائل الإعلام؛ وإنما واصَل استفزازها وباشر تصعيده المتشنِّج ضد الصحفيين على نحو تجاوز كل تقاليد واشنطن العاصمة في لياقة الأداء خلال المؤتمرات الصحفية وفوق منصّات الحديث. نازل ترمب الصناعة الإعلامية التي اجتمعت عليه باستعمال حسابه على المغرِّد/ "تويتر" فصنَع من خلاله الأحداث وفرَض أولويات التناول الإعلامي على الجميع في اليوم التالي، وهو حساب يحظى بمنسوب متابعة لا تحلم به بعض وسائل الإعلام التي تصبّ نقدها عليه. ما جرى أنّ "المسْتر برِزيدِنت" قرّر التصرّف على طريقة أحد "مواطنيه" في استعمال الشبكة، فمضى رئيس الولايات المتحدة الأرعن في خوْض منازلته المتواصلة وسط ذهول العالم كلّ ليلة من فحوى تغريداته الفجّة.

 

يُفصِح هذا المثال الجسيم عن انقلاب يجري من تحت الأقدام في مفاهيم القوّة وأدواتها وأساليبها عبر ميادين عدّة، وهو ما يفرض قلقاً متعاظماً في حقول شتى من عواقب قد تدفع بها تطوّرات غير محسوبة. تخشى المؤسسات التقليدية من أن يلحق بها مصير "نوكيا" التي تصدّرت سوق الهواتف المحمولة عالمياً ثم صارت في سنوات قليلة عبرة لمن يعتبر، بعد أن أثقلها نجاحها العريض عن استباق التطوّرات المتلاحقة والتحسّب لتفاعلات أزمان وشيكة؛ فأغرقتها موجة الأجهزة الذكية التي صعدت بغيرها، وأمست "نوكيا" من بعدُ علامةً على ما يسمّونه "الزمن الجميل"؛ أي الماضي الذي تصرّم ولن يعود.

 

تتجسّد مأساة "نوكيا" في حقول شتى عبر بيئات البشر؛ من خلال تجارب ركنت إلى قوّتها وحظوتها ولم تستشرف دورة التحوّلات المتسارعة من بين يديها ومن خلفها. ومن هذه التحوّلات أنّ الهياكل المؤسسية العملاقة ما عادت تعبيراً تلقائياً عن القوّة والنفوذ في عالم الأعمال، بعد أن تحقّقت ريادة مشهودة لمشروعات سريعة التشكّل استثمرت في فكرة مبدعة وسخّرت لها فِرَقَ عمل نشطة لا تتقيّد بتقاليد بيروقراطية نمطية وإن حرص عليها الأسلاف حتى وقت قريب. يفرض هذا المنحى تأثيراته على بيئة العمل المكتبية الجديدة التي تتجاوز طقوس الماضي نحو فضاءات تشاركية تتخفّف من التعبيرات السلطوية باتجاه تحقيق معايشة بين الموظّفين والعاملين بلا تكلُّف. ومضت تجارب أخرى إلى تجاوز الحياة المكتبية ذاتها إلى أنظمة عمل شبكية فعّالة أظهرت جدواها؛ متحاشيةً تقاليد رتيبة تحرص عليها مؤسسات قوية ذات نفوذ.

 

وتكتشف مؤسسات الحاضر فعالية الخيارات "النبيهة" في التشغيل المتجاوز للهيكلة النمطية، وتلجأ مؤسسات عملاقة إلى تمكين فرق عمل صغيرة من أداء أدوار وتشغيل برامج وإطلاق مشروعات عوضاً عن تقاليد العمل الهيكلية المركزية التي كانت عليها. إنها جميعاً شواهد قائمة على إعادة تعريف القوّة في حقول عدّة، بصفة تتجاوز تمظهراتها التقليدية التي تتثاقل عن الأداء الاستباقي الفعّال في عالم متغيِّر. فالشاحنة العملاقة تفرض هيْبتها على الطرقات حقاً؛ لكنها تعجز عن المناورة الرشيقة التي تحوزها دراجة نارية تنسلّ بين المركبات المتثاقلة إلى الأرض.

 

انقلاب في توازنات القوة

لم يدرك بعضهم عمق الانقلاب الذي يشهده البشر في توازنات القوّة، ومن ذلك أنّ قوّة الترويج الهائلة التي تحوزها شركات متعددة الجنسية تواجه مأزقاً متعاظماً مع أفراد الحاضر والمستقبل الذين يمتلكون قدرات المخاطبة الجماهيرية الميسّرة، بما يُخاطِر بفرصة هذه الشركات في تمكين سلعها وخدماتها من الرّواج المديد.

 

تكتسب بعض الأطراف الضعيفة، بالمفهوم السطحي للضعف؛ امتياز قوّتها من إدراكها قوّة الضعف ذاته؛ كأن تملك قوّة الترجيح في التوازنات السياسية والمجتمعية مثلاً

لم يُدرِك بعضهم اليوم معنى أن تقتدر ربّة البيت من مطبخها الصغير على مناجزة منظومة تسويقية متطوِّرة بمقطع بدائيّ تدفع به إلى الشبكة؛ تحذِّر فيه الجماهير من اقتناء منتج معيّن لعلّة تزعمها. يختزن الفرد "الضعيف" من هذا الوجه قدرةً مذهلة على تخفيض القيمة المعنوية لعلامة تجارية بازغة استثمرت شركة عملاقة أموالاً طائلة وجهوداً دؤوبة وأوقاتاً مديدة في تعظيمها. وإن تأسّس كثير مما تتلقّاه جماهير الزمن الشبكي بالقبول على الوهْم والزيْف أساساً؛ فإنه هذا التحوّل يشير قطعاً إلى تغيّر جوهري طرأ على معادلة القوّة بإسقاطات تتجاوز مثال ربّة البيت إلى شعوب وقبائل ومجتمعات تبحث عن فرصتها في عالم غير متوازن.

 

تُدرِك الشركات العملاقة النفوذ التواصلي المستجدّ الذي تملكه ربّات بيوت ويحوزه أطفال وصِبية لهم إطلالاتهم المرئية أيضاً، فتحاول الشركات تسخير هذه الجمهرة الشبكية بطرائق متعددة لترويج منتجاتها في الشبكات ضمن مفاهيم "التسويق متعدِّد المستويات"، لكنّ هذه القدرات قد تسري بما لا تشتهي سفن العماليق أيضاً، فالأداة قابلة لأن ترتدّ على أصحابها بجهود فردية ناجعة؛ فكيف بها إن جاءت منهجية منسّقة أيضاً؟! أدركت أنظمة القهر والاستبداد قدرات الأفراد هذه؛ فباشرت مساعيها المتضافرة لمصادرة المحتوى الشبكي وإخضاعه بحيَل شتى؛ جاء منها اختراع شعوب بديلة في الشبكات من خلال تنظيم جيوش إلكترونية تهيْمن على مضامين البثّ والتغريد وتتصرّف كأنها الشعب عيْنه، لكنّ الذي يظهر في مقطع هنا أو يُطلِق تغريدةً هناك قد يكون هو التعبير الشبكي المتذاكي عن السلطة التي تختبئ تحت غترة مواطن، أو لعلّ جهاز الأمن انتحل صفة "رجل شارع" في مقطع سخيف يحظى بالرواج.

 

مأزق القوة

تكتسب بعض الأطراف الضعيفة، بالمفهوم السطحي للضعف؛ امتياز قوّتها من إدراكها قوّة الضعف ذاته؛ كأن تملك قوّة الترجيح في التوازنات السياسية والمجتمعية مثلاً. تُتقن بعض الأحزاب هذه اللعبة جيداً في الحياة الديمقراطية، فهي تُدرك حاجة أحزاب كبرى إلى تشكيل ائتلاف حكومي أو تمرير تصويت برلماني أو الظهور في جوقة تعدّدية مصطنعة، بما يدفع هذه الأطراف الضعيفة إلى المغالاة في الثمن السياسي الذي ستتلقّاه نظير الانخراط في ائتلاف أو اصطفاف أو مَشهَد. تستعمل أحزاب مجهرية في دول عدّة نفوذها هذا باحتراف، فتفرض السناجب الصغيرة على أفيال السياسة الانصياع لإملاءاتها خشية انهيار ائتلاف حكومي أو خسارة ثقة برلمانية أو تبديد صورة إجماع مُصطنَعة.

 

ويتجلّى جانب من مأزق القوة المنعقدة بالمفاهيم الأرضية، في حاجتها إلى الضعف كي تُبرهِن على ذاتها، بما يعني من هذا الوجه أنّ الضعف يبقى ضرورة وجودية للقوّة، وأنّ امتناعه عن القيام بالإفصاح المفترض عن ذاته لتحقيق هذا الدور الوظيفي؛ قد يزعزع مفهوم القوّة أو يُفرِغه من محتواه.

 

يُختَبَر هذا المنطق في مواجهة سطوة مركزية تتحكّم بالسوق من خلال احتكارات معيّنة، فالسطوة تتجلّى هنا بالاحتكار أو الإغراق السلعي مما لا ترى الجماهير بديلاً عن الارتهان له. لكنّ الجماهير إن قرّرت الامتناع عن استهلاك مُنتج معيّن، مدّة من زمن؛ فإنّ تصرّفها الجمعيّ اليسير هذا قد يحقِّق نتائج مُذهِلة. يقوم هذا المنطق على الإحجام عن التجاوب مع علاقة ارتهان مفروضة؛ بما يُفقِد الاحتكارَ جدواه، وقد ينجح مسعى الامتناع في تركيع السطوة لإرادة جماهيرية مُتماسِكة.

 

تمّ تجريب قوّة الامتناع هذه في خبرات الإضراب، وفي المقاطعة الشرائية، ومن ذلك خبرة مستجدة أتقنتها الجماهير المغاربية على مدار عام 2018 عندما خاضت حملات متعاقبة لكسر سطوة المُنتجين أو المورِّدين بأسعار يفرضونها على سلع أساسية. واجه الجزائريون المُغالاة السعرية في سوق السيارات بمقولة تزهد بالمركبات ذاتها؛ جاء فيها: "خلِّيها تصدِّي!". وسدّد الناشطون الشبكيون المغاربة، المعروفون بــ"المداويخ"، رسائلهم الجماهيرية بعناية ضد غلاء الأسعار بحملة مقاطعة منتجات الألبان تحت شعار "خلِّيه يريب!". إنّ إحجام المستهلكين عن تناول سلعة معيّنة من المتاجر يضغط على سطوة السوق المسلّطة عليهم، ويكتشفون بأساليب كهذه أنهم ليسوا عديمي الحيلة إزاء قوّة المركز السوقي الاحتكاري ومواصفاته الإنتاجية المفروضة وسياساته السعرية التحكّمية.

 

لكنّ هذه التجارب لم تنضج بعدُ، عربياً وعالمياً، في مواجهة مراكز النفوذ المهيْمنة على الفضاءات الشبكية ذاتها التي تُتّخذ منصّة للاعتراض والمقاطعة على غيرها. فمع استعلاء الاقتصاد الشبكي تشكّلت احتكارات من نوع جديد منبثقة عن مراكز سلطوية يتحكّم بها أفراد قلائل في هذا العالم ضمن دوائر نفوذ ضيِّقة للغاية. لم تكتشف الجماهير، بعدُ، قدراتها على إخضاع سطوة متنفذي الشبكات بخيارات متاحة، ولم تلحظ قوّتها الكامنة في ما تحسب أنه انعدام حيلة، ولم تُدرِك أنّ متنفِّذي التشبيك يختزنون ضعفَهم أيضاً. لم يتسلّح جماهير الزمن الشبكي بخطاب مطلبي وخيارات تحرّك ضاغطة في مواجهة هيْمنة أرباب "العالم الأزرق" وتحكّمهم الفوقي. مع هذه الاستكانة المتقاعسة؛ يرقد مارك تزوكربرغ وأشياعه هانئين حتى اللحظة رغم المآخذ الجسيمة على استفراد شركاتهم بشعوب الأرض المنصاعة لاشتراطاتهم، وهذا لأنّ جماهير العالم الشبكي لم تنظِّم مظاهرة معولمة واحدة ذات شأن في وجوههم، رغم أنّ واحدة منها فقط كفيلة بإحداث تعديل نسبي في موازين القوى.

 

يحقّ لأرباب الزمن الشبكي أن يخشَوْا أي تطوّر يضغط – بشكل خاطف ربما – على أرباحهم الفلكية وامتيازاتهم الهائلة وصلاحيّاتهم الواسعة، وهو ما يُبَرِّر حرصهم على الظهور في هيئة متواضعة للغاية؛ توحي للجماهير بأنّ أحدهم "واحد منّا" في طريقة عيْشه وكيفية سلوكه ومنسوب استهلاكه، وكأنه لم يملك مليارات وفيرة بضربة شبكية واحدة صعدت به سريعاً إلى مرتبة قارونية.

 

يفرض هذا التحوّل تطوير خطابات ضاغطة ومطلبية، واضحة ومفهومة، ضمن جماهير الشبكات، مع استلهام تجارب من أقاليم مخصوصة وتناقُل الخبرات وتوسيع نطاق التحرّكات، مع ملاحظة أنه عهد إنساني جديد تسبق فيه التقنية تطوّرَ الخبرة البشرية المُلازِمة لها في الاعتراض والتحدِّي.

 

قوة الحق أم سطوة القوة؟
من شأن مفاهيم قوّة الضعف وضعف القوّة أن تمنح الباحثين عن مكان لائق بكرامتهم تحت الشمس فرصاً واعدة، شرط أن يكفّ الضعفاء عن هواية الازدراء الذاتي التي تستبدّ بهم أحياناً

ما إن تبدّى فرعون في ذروة قوّته وقمّة سطوته في موعده المعقود يوم الزينة، حتى أسفر موقفه المُفتعَل هذا عن ضعفه الجسيم بعد أن أعجزته الآيات المرئيّة وآمَن سحرتُه الذين جاء بأساتذتهم من أنحاء البلاد. تضعضعت سطوة فرعون واستعلى الإيمان بسَحَرة ما جرّبوه إلاّ من لحظتهم، فأسفر معهم عن يقين عميق حرّضهم على تحدي السطوة الفرعونية حتى واجهوه بمرافعة جسورة: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) سورة طه 72.

 

لم تكن المخاطبة في هذا المقام المشهود متكافئةَ الفرص ابتداءً؛ لكنّ قوّة الحقّ وشجاعة الموقف أحبطتا سطوة القوّة وغطرسة الهيْبة، فناجز السحرةُ فرعونَ واستعلوْا عليه وعطّلوا نظامه الرّمزيّ وأحبطوا مفعول الترغيب والترهيب المنبثق عنه؛ بأن استمدُّوا القوّة من خالقهم في موقفِ إيمانٍ وبقين، وإن لم يكن هذا ليُتوقّع منهم ابتداءً. فوّض مؤمنو هذه اللحظة التاريخية أمرهم لله تعالى، وإذ بفرعون ذي الأوتاد يسارع إلى هلاكه وقد أعماه الطيْش الذي استدرجه إليه زهوُه بقوّته المادية وسطوته المعنوية.

 

تشير هذه العِظَة التاريخية إلى قوّة الحقّ في مواجهة سطوة القوّة المُؤسَّسة على الزيْف، وهو ما يمنح فكرةً قوية مؤهِّلاتِ الانتصار على فكرةٍ ضعيفة؛ وإن حيكت لها الأحابيل ونُسِجَت مقولاتها بعناية ودُفِع لها بتعبئة سخيّة تسحر أعين الناس ردحاً من الزمن. ولا مبالغة بالقول، مثلاً، إنّ مفتاحاً ترفعه كفّ صغيرة في مخيّم لاجئين كفيل بتمزيق سردية دعائية محبوكة عن حقٍّ تاريخي ساذج يزعمه المحتل في فلسطين. ليس القوي قوياً بإطلاق، وليس الضعيف ضعيفاً بإطلاق، ففي القوّة ضعف وفي الضعف قوّة، والشواهد على هذا ماثلة للعيان في حقول شتى ومستويات متعدِّدة.

 

قد تعمل قوّة الضعف بفعالية مذهلة، فإن اقتات طغاة الأرض من دماء شعوبهم؛ قد يُحرَم أحدهم النوم بفعل بعوضة رشيقة تطلب قوتها من دمه. وإن انتهت المطاردة الليلية بسحق مُجنّحة دقيقة؛ قد يكتشف المتغطرس أنها لم تكن تلك التي أزعجته ليلةً بحيالها، فيستأنف المطاردة التي تَكشِف ضعفَه وتفضح عجزَه. إنها عبرة ماثلة في الكائنات عموماً، التي يحوز أدقّها وأصغرها قدرات فعّالة على الإزعاج والمُشاغَلة، أو افتكاك القوت من بين أضراس التماسيح أو امتصاص الدم من وحوش كاسرة، (وإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ) سورة الحج 73، ولهذا التجريد بالمثال انعكاساته المُجرّبة في استراتيجيات الأمم وخيارات الجماهير.

تبلغ القوّة الأرضية مبلغها إن إدركت مكامن ضعفها وتحسّبت منها باقتدار؛ ويبلغ الضعف ذروته إن أعجَز أصحابه عن التدبّر والتصرّف وصرفهم عن استثمار قوّة محتملة قد يختزنها ضعفهم من حيث لم يحتسبوا.

من شأن مفاهيم قوّة الضعف وضعف القوّة أن تمنح الباحثين عن مكان لائق بكرامتهم تحت الشمس فرصاً واعدة، شرط أن يكفّ الضعفاء عن هواية الازدراء الذاتي التي تستبدّ بهم أحياناً، أو أن يعقدوا المقارنات التقابلية التعسفية مع الأقوياء وفق طقوس الجلد الجماعي لظهورهم. ولا يصحّ تشويه سؤال النهضة بالقول: "ماذا سيخسر العالم إن اختفيْنا عن آخرنا؟"، فاللطميات الحضارية التي تتذرّع بدعاوى الإيقاظ لا تزيد الضعفاء إلاّ ضعفاً، وسيكتشفون من بعدها أن وجوههم ما ازدادت إلاّ تورُّماً وأنّ إرادتهم ما اعتادت إلاّ تقزّماً، وأنهم صفعوا وعيَهم حقاً.. دون أن يُطلِقوه من قمقمه مارداً يتحرّك بين الأقوياء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.