شعار قسم مدونات

المغاربة وتقديس الخبز

blogs خبز

الخبز هو الحياة أو الوجود إن صحّ التعبير، لاسيّما عند المغاربة فهو مقدّسٌ ومُحرّم ولا أحد يستطيع أن يقلّل من شأنه، وذلك باعتباره شيئاً أساسيا للإستمرار في العيش، لا أبالغ في ذلك ولكنَّ المِخيال الثقافي والشعبي عندنا يصوّر الخبز كإلهٍ لا مناص لنا عنه.

 

كما قال عبد الرحمان المجذوب الزّجّال الصّوفي الذي طاف وجال في أرجاء البلاد، حيث كان يُلقي أقواله الشعبية المأثورة على كل من صادفه في طريقه، وقال في الخبز ماقاله مالكٌ في الخمر حيث قال المجذوب "الخبز يا الخبز والخبز هو الإفادة لو ما كان الخبز ما يكون دين ولا عبادة"، وهذا يشي بأنّ الخبزَ هو عنصرٌ يحوي فائدةً جمّة، كما أنه ركنٌ من العبادات والعقائد التي يستند إليها الدين.

 

هناك حكاية تتداول عند القدامى من الناس لا نعرف أهيَ فِرية أم صدق؟ مفادها أن سبب تعلّقنا ولهفِنا بالخبز هو أن آدم كان يحمل خبزةً في السماء حيث وقعت من بين يديه في غفلة منه وظلت تتدحرج وتدور وهو يعدو خلفها من أجل قبضها، وكان هذا هو سبب هبوطنا إلى الأرض هكذا تقول الأسطورة، بعيدا عن قصّة الشجرة.

 

الخبزُ إذنْ مقدّسٌ ولا يمكننا الإستغناء عنه، فعند تهييء طاولة الطعام نسأل عن وجوده قبل أي شيء آخر، لأنه الكُلَّ في الكُلِّ

نحن تربّينا على إماطة الخبز من الطريق وتقبيله ووضعه في مكان قصيّ درءًا من أن تَداسُه أو تطأُه أحد الأقدام غفلة ً أو عن سبق شبعٍ وتُخمة، ومن يفعل ذلك فستنقلب عليه النّعمة نِقمة في القريب العاجل ولن يؤخر الله في شقائه، هكذا يقول الحِسُّ المشترك العامّي الذي يؤمن به ويصدقه السواد الأعظم من الناس.

 

أليس الخبز هو الذي ننهض من أجله صباحاً للبحث عنه لكي نستمر في محاولة العيش؟ ودائما ماننبس فيما بيننا قائلين بتنهد عميق "الخبز صعيب" ومَكمنُ توعّره في إيجاده بيسر وسهولة، لاسيما عند الباحثين عنه في الحلال الطيب، فمن المشقّة بمكان تحصيله بهذه الكيفيّة، لاسيما في البلاد التي لا تستطيع إطعام مساكينها وفقرائها.

 

أمّا الخبز الذي يتبقّى بعد تناولنا الطعام لا يمكننا أن نضعه مع الزُبالة والقمامة بل يخصّص له كيس لوحده، وحين تتجمّع منه كمية كبيرة يُنشر على الأرض حتى يصبح يابساً، وقابلا لإعداد وجبة "الرْفيسة العَمْية" الشعبية.

 

والغريب في الأمر أننا حينما نرغب في وصف الشخص الغَرير نقول بأنه "خُبزْ ربي في طَبْڭُو" وذلك لسذاجته وبلاهته المفرطة؛ أمّا عندما نجد وظيفة مناسبة براتب مقبول ينصحوننا بعدم تضييع هذه "الخْبيزة" التي وهبها الله لنا، كأن الخبزَ هو جوهر هذه البسيطة التي نعيش فيها، وإذا أردت أن تنزل إلى الشارع لمطالبة الدولة بتحقيق مطلبٍ ما، تُواجَهُ بمقولة "تا سِير كُولْ الخبز وسْكت" وتُردَف بعبارة أخرى "شْبعتي خُبز" وتقال لك من الأقرب المقرّبين لك، بمعنى أنّ وفرةَ الخبز وفيضِه هو الدّافع والحافز للخروج عن الطاعة والإنصياع.

 

حتى في الدعاء أحيانا يكون الخبز حاضراً لا مفرّ منه، وهناك دعوة تفوق الاستعارة بنوعيها وتقول، "بغيتْ لك خبزة سمينة مَعجنُوها يدّين مشافوها عينين"، كناية عن تسهيل سبل الحياة دون عراقيل ومعوقات تُذكر، وثمّة عبارة نرددها أيضا تخرج عن المجاز العقلي نقولها للشخص الذي ذهب إلى البحث عن قوت يومه " مشا يصوّر طرْفْ ديال الخبز".

 

الخبزُ إذنْ مقدّسٌ ولا يمكننا الإستغناء عنه، فعند تهييء طاولة الطعام نسأل عن وجوده قبل أي شيء آخر، لأنه الكُلَّ في الكُلِّ، فلا يقدر أحدٌ التطاول عن بداية الأكل قبل هذه المادة الحيوية التي تجعل منّا أحياءَ نُرزق، خاصّةً عند الوجبات التي لا محيد لها عن الخبز، وهناك مثلٌ روسي يقول أنّ "الخبزَ أبٌ والماءُ أمٌ".

 

مهما يكن فالخبز هو ترياق وإكسير الحياة التي نواجهها دوما، كائنا ما كان من المغاربة لا يتخيل حياته دون كِسرة خبز، فلقد ألْفَوا أبائهم على هذا النمط من العيش الذي يفرض الخبزَ من أساسيات المائدة المغربية، التي قد يعتريها نقصٌ مهول إذا ما غاب عنها الخبز الذي يُعتبر سيّدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.