شعار قسم مدونات

سعودية بن سلمان.. بين هيئة الترفيه وهيئة السجون

blogs بن سلمان

يواجه "سلمان العودة" أكثر من ثلاثين تهمة قضائية في المحكمة السعودية، ومن هذه التهم "تغريدة" تويتر وتهم أخرى منسوبة إليه، وأغلبها بدون أدله وبدون قرائن.

     

على الطرق الفرعية المؤدية إلى وسط الرياض، تقع النيابة العامة السعودية وحين تصل إليها تجد صورة كبيرة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وإلى جوارها كُتبت عبارة "العدل أساس الحكم" وبصرف النظر عما إذا كان بن سلمان هو ذلك الشخص الذي سيطبق العدل أم لا، فإن الدعاية تلك، باتت تتكلم عن معنى مغاير للسعودية: البلد شديد الانغلاق، والبلد الذي لابد من تغيير طبيعته.

  

وبالنسبة لآخر مقال للصحفي الراحل جمال خاشقجي، مؤلف كتاب (علاقات حرجة: السعودية بعد 11 سبتمبر) فالتغيير الذي يقوده بن سلمان هو زعزعة حادة للمجتمع أقرب إلى الصدمة والرعب منه إلى فتح الأبواب والانفتاح. يريد بن سلمان أن يحكم السعودية لنصف قرن، وفقاً لرغبته التي أفصح عنها لوسيلة إعلامية أميركية. وبطريقة ما توصل الرجل إلى قناعة بعدم احتياجه لدعم المؤسسة الدينية، وأنه قادر على إنجاز استقرار سياسي في بلده عبر وسائل أخرى. دفعته تلك القناعة إلى نزع "الصاعق" عن المؤسسة الدينية، وإذا استخدمنا كلمات جمال خاشقجي. تبدوا المؤسسة الدينية السعودية، حتى اللحظة، مذعنة وهي تشاهد الأبواب المفتوحة والأبواب التي سُتفتح. هذا الاستسلام الشامل لا يمكن تفسيره بـ"الرعب" أو "الصدمة الحادة" فقط.

  

في الواقع ثمة عملية تحديث بنوية آخذة في الاتساع. كان التحديث الثقافي والاجتماعي أحد مشاريع "بن سلمان" والتي أفصح عنها لتتبعها موجة اعتقالات شملت علماء دين ومفكرين وناشطين حقوقيين، أملآ بأن تفضي الحداثة الثقافية إلى تحديث اجتماعي في نهاية المطاف. ولكن للأسف لم يحدث ذلك حتى الأن وكل ما حدث هو عبارة عن اعتقالات وتكتيم أفواه طال الكثير من العلماء وتهديدات بإعدامهم.

    

  

أسست السعودية "هيئة الترفيه" في بلد كان يُقدم، حتى تلك اللحظة، بوصفه بلداً إسلامياً صميماً، بما في ذلك أدبه وفنونه. أحس الإسلاميون الموالون لمفتي السعودية بالخطر الذي يحيط بفكرتهم حول طبيعة البلد، وبالمدى الذي يمكن أن توصِل إليه عمليات التحديث الثقافية. أتباع خط "آل الشيخ" رأوا أن التحديث الثقافي يمكن أن يسرق منهم المجتمع في الأخير. كان تأسيس تلك الهيئة هو الرد الذي استطاع "بن سلمان" أن يوصله للجناح الوهابي وهم يشاهدون أسماء الفنانين يتقاطرون إلى السعودية للغناء والترفيه وشكل ذلك نسفآ حقيقياً لفتاوى تحظر هذا اللون من الترفيه ولأسماء ثقيلة مثل "الألباني" الذي أريد له أن يكون حاكماً فعلياً للمملكة السعودية بعد وفاة فيصل بعامين في عهد القوة الدينية والهيمنة "الوهابية".

 

بعد القبض على "سلمان العودة" وعدد كبير من الناشطين والعلماء وبأيام قليلة تم إرسالهم لهيئة إصلاحية "الحائر" وإلى سجن "ذهبان" وامتلأت السجون بالناشطين وفي نفس الوقت امتلأت الصالات الرياضية المغلقة في المدن السعودية بالغناء "الأمريكي" والرقص والوفود الفنية الراقصة من كل العالم لفناني الراب العالميين. لقد ترك المشروع الثقافي لولي العهد أثراً بالغاً في الحياة السعودية، وأنتجت الحداثة الثقافية تغييراً اجتماعياً واسعاً. فالسعوديون الذين سجلوا الرقم الأكبر ضمن قتلى "الجهاد الأفغاني"، قبل ثلث قرن من الزمن، تخلوا عن مكانتهم تلك في الحربين السورية والعراقية اللتين ستنفجران في العقد الثاني من الألفية الجديدة.

 

استورد السعوديون التكنولوجيا، بما في ذلك التكنولوجيا ما بعد الحديثة. إجمالاً لا يمكن اعتبار التكنولوجيا مادة محايدة، إذ هي تحمل معها نموذجها المعرفي والفلسفي. وهي تشير لا إلى العقل الذي ابتكرها وحسب بل إلى المناخ العام الذي سهل إنتاجها. وبقدر ما تثير التكنولوجيا الحديثة الإعجاب فإنها تنقل ذلك الإعجاب إلى الحياة العامة التي جعلتها ممكنة: إلى الحرية، التنوع، والديموقراطية، سيادة القانون، والإبداع غير المقيد. ثمة عمليات تحديث بنيوية سعودية آخذة في الفعل والحركة منذ عقود، وهي تكسب أرضاً وفضاء على نحو متصاعد. الأبواب التي بقيت مغلقة لا تعني أنها كانت مغلقة على بلد ميت، كما توحي الدعايات التي ترافق صورة ولي العهد.

 

بالطريقة نفسها استسلمت الكنيسة الأوروبية وهي تشاهد الناس يديرون ظهورهم لها ويتجهون إلى العلمانية. وعلى نار هادئة، تم سحب سلطة الكنيسة، ومع الأيام أنتج المجتمع الثقافة التي تعبر عنه، وانعكست أهمية الأفكار على مثقفيه الذين سيسحبون الكثير من القيمة الاعتبارية التي منحها التاريخ لرجال الكنيسة. في نهاية المطاف جمعت الكنيسة كتبها ورحلت هي الأخرى إلى اللاعودة. عبر هذه الآلية التاريخية، كما يلاحظ المؤرخ الكبير جاك لوغوف، خسرت الكنيسة صراعها مع المجتمع من دون إراقة للدماء. في خطاب شهير قال ريغان، وهو يشير إلى جدار برلين: اهدم هذا الجدار يا غورباتشوف. بعد ثلاثة أعوام سقط الجدار من تلقاء نفسه، وسيذهب غورباتشوف بعد ذلك إلى "الغرب" ليكتب مقالات عن ملاءمة الحياة الليبرالية للإنسان العالمي الجديد.

 

لا يبدو، حتى الآن، أن المجتمع السعودي قد تعرض لصدمة وهو يشاهد ولي العهد يفتح الأبواب. بقيت الأبواب مغلقة لكن المجتمع كان يعيش حداثته من الداخل. يمكننا إلقاء النظر، مرة أخرى، على ما كتبته رجاء الصانع في "بنات الرياض" لنشاهد حياة النساء هناك، حيث المال والموضة والتكنولوجيا والموسيقى والعلاقات العاطفية المتقاطعة والخيال ما بعد الحداثي. كانت "بنات الرياض" الشرح الأخير للحقيقة الجديدة، وذلك سبب الخضة التي أحدثتها الرواية. وبمقدورنا القول إن خصوم الرواية لم يكونوا ينوون مهاجمتها بقدر ما كانوا يحاولون إخفاء الحقيقة وصرف الأنظار. كما لو أنه كان كافياً أن ينزع بن سلمان "الصاعق" عن السلطة الدينية لنشاهد المجتمع الذي حلم به "السريجي" قبل ثلث قرن من الزمان: المجتمع المفتوح. بيد أن المسألة ليست بهذا القدر من اليسر.

   

  

النموذج التونسي يعلمنا أن نأخذ أبسط الملامح على محمل الجد. المجتمع الذي انتقل من الديكتاتورية إلى الديموقراطية خلال أيام قلائل أثار حفيظة قطاع كامن فيه. وبمقدار ما كانت التجربة الديموقراطية تتصاعد كان الإرهاب التونسي العابر للحدود يذهل العالم. إنه شكل حاد من أشكال المعاوقة والرفض، الماضي الذي يرفض أن يموت في مداهمة ليلية، ويعبر عن حضوره بأكثر الأشكال وحشية.

 

أما في الحقبة الجديدة من التحديث السعودي، حقبة "بن سلمان"، يؤسس السعوديون "هيئة الترفيه"، في محاولة لمنع "ال الشيخ" من الهيمنة على الواقع السعودي وسحب البساط منه. ثمة ماضي عريق في الجزيرة العربية، وهو لن يسمح لنفسه بالهزيمة، وربما لن يحزم أمتعته ويرحل كما فعلت الكنيسة ويذهب مع الناس إلى الشوارع. ومن الأخطاء المبكرة لبن سلمان أنه وضع الإسلاميين الذين أسسوا "رابطة الأدب الإسلامي" ومنهم الشيخ سلمان العودة في المعتقلات وأبقى في الخارج على الإسلاميين الذين لا يحتجون بتلك الطريقة الناعمة. ربما ذلك هو ما أراد أن يشير إليه هاغ مايلس، الصحفي البريطاني الذي ولد في السعودية، وهو يتحدث عن زلزال يضرب المجتمع السعودي. دعونا نتذكر ما حدث في إيران: قام بعض رجال الخميني بإغلاق أبواب سينما ريكس وإضرام النار فيها. التهمت النيران الإيرانيين وماتوا فيها، وفي الحال ألصقت الجريمة بنظام الشاه. تدحرجت الاحتجاجات، وكبرت كرة النار. بعد أشهر جرفت ثورة عارمة حكومة الشاه ووضعت الخميني حاكما جديداً.

 

فشل الماضي التونسي في إلقاء القبض على الديموقراطية، لكن محاولة أخذ الديموقراطية إلى الماضي، كما جرى في مصر، كانت كافية للقضاء عليها. وفي كل الأحوال تستطيع القوى المعادية للتحديث أن تشعل النار في دار للسينما، في بلد كان يملك آنذاك عشرات دور السينما، لتقلب نظام الحكم رأساً على عقب. لا يرسل بن سلمان إشارات تقول إنه واعٍ بهذه المعادلات الحرجة التي قد تطوح بعملية التحديث السعودية الجارية منذ عقود. فهو محاط، كما يقول توماس فريدمان، بمراهقين مشحونين بالتستيرون. يغريه "نادي الصبية" بالتحركات الأكثر خطورة، ولأنه حاد الطباع فهو لا يحصل على أي نصيحة ثمينة من المحيطين به، وفقاً لفريدمان.

 

في المحصلة يفتح "بن سلمان" الباب لعملية تحديث غير مستندة إلى "حكم القانون"، وغير محاطة بإصلاحات حقيقية على مستوى المؤسسات. بموازاة التحديث الاجتماعي ـ الثقافي هناك شخصنة للقوة في السعودية ستجعل البلد يبدو، في نهاية المطاف، وكأنه مجرد نزوة من نزوات ولي العهد. من هذا الجانب يمكن مشاهدة "البطل" بن سلمان وهو يلعب دور "المجرم" في الوقت نفسه، يخاصم الحداثة التي ينشدها ويسجن الناشطين من دعاة الحداثة أمثال "لجين الهذلول" وغيرها من دعاة الحداثة والتحول الحداثي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.