شعار قسم مدونات

الحَراك الجزائري وصراعُ القوائم.. حين تتعدّد المرايا والثّورة واحدة!

blogs الجزائر

يُصاب المرء منّا بالهمّ والغضب معًا حين يمرّ عبر منشورات ومقالات مختلفة، تضع قوائم شخصيّات لتأطير الحراك الشّعبي وقيادته، قوائم لا تحتوي سوى على أسماء وصور شخصيّات سياسيّة وإعلاميّة ذات خلفيّات وتوجّهات أيديولوجية، وبالتّالي ستسعى للوصول إلى مآربها الشخصيّة والحزبيّة باسم الشّعب وبصوت الشّعب لكن بالاحتيال عليه، ومقالات أخرى لآراء تتصادم وتتصارع حول من يقود الحراك؟ كلٌّ يفرض قائمته، فبمَ يمكنك أن تشعر حين تعلم أن هؤلاء مُصرّون على تشكيل «قوائم قيادة الحراك» تُشارك لاحقًا في التفاوض مع النّظام لكن لا تضمّ سوى الوجوه السياسيّة التي تعوّدنا عليها -بعيدًا عن النّخب الشعبيّة-، والتي أثبتت فشلها في توحيد الشّعب على كلمةٍ سواء طيلة الفترات الماضية، وخلق التغيير؟ بمَ يمكنك أن تشعر حين تجدُ هؤلاء يتصارعون مجددًا لحوصصة الحراك واستعماله كسلّمٍ لبلوغ السّلطة وتحريكه بما يخدم مصالحهم؟ وماذا يمكن أن يكون حالك حين تقرأ أن لا حقّ للشّعب في تمثيل نفسه وكأنّه عقيمٌ لم يُنجب نُخبًا، لذا لابدّ من نُخبٍ ذات توجّهات سياسيّة وفكريّة لفعل ذلك؟ وكيف ستكون ردّة فعلك حين تلاحظ أنّ سكان الجنوب الجزائري مغيّبون تمامًا عن كلّ القوائم المُقترحة، وأنّ هذه الأخيرة إمّا ذات طابع إسلامي بحت أو علماني بحت أو مزيجٌ بينهما؟ أَوَليس الشّعب الجزائري مزيجٌ من شيوخ وشباب، نساء ورجال، وخليط بين أمازيغ وعرب، مسلمين وعلمانيين وفرونكوفونيين… أليست هذه التشكيلة الشعبيّة هي نفسها التي انتفضت وخرجت إلى الشّوارع فصرخت بصوتٍ واحدٍ لإسقاط الأنظمة؟ فلمَ هي مغيّبة اليوم عن قوائمكم؟

 

إنّ الحقيقة التي باتت واضحة هي أنّ الصراع المتأجّج في الشوارع والقلوب والحناجِر وحتّى على الفيسبوك صار صِراعًا آخر حول معنى الثورة ومبناها. فكأنّما الثورة ليست «حقيقة تاريخيّة» وإنّما «وجهة نظر» كلٌّ يراها على حسب وعيه، مصالحه أو ظروفه أو وضعه الطبقيّ والسّياسيّ! فينبغي ألا ننسى أنّ هذه الثورة ليست مُجرّد حركة في الشّارع، وإنما وعيٌ بالهدف وإصرارٌ على السّعي إلى تحقيقه. ومن ثمّ فمن يسرق المعنى يسرق الثورة أو يكاد.

 

صارت الثورة ضمن صراعٍ بين قوى تتنازع على المستقبل لتشكيله وفق مصالحها ومنظورها. رغم أنّها ما زالت في طور التشكّل والتّبلور. لذا كان لِزامًا علينا كواجبٍ أوّل المشاركة في حماية ثورتنا وصناعتها، والنضال ضد سرقتها

لقد صار المشهدُ واضحًا، تعددت مرايا الثورة وتداخلت وجوهها؛ فلم تعد ثورتنا ثورة واحدة، بل ثورات مُتعدّدة مُتداخلة مُتناقضة؛ كل فئةٍ أو طبقةٍ أو جماعةٍ سياسيّة تراها بعينٍ خاصّة، وتؤوّلها وفق هواهَا، وتُحاول توجيهها لمصلحتها. وما هذا إلاّ صراعٌ ضارٌّ يدور أمام أعيننا ومن وراء ظهورنا. فمتى يتوقّف هؤلاء عن اتّباع أسلوب الوصاية على الشّعب؟ أسلوب الوِصاية هذا الذي ينهون عنه النّظام ولكن لا ينْأون عنه… إنّ هذه الصّراعات ستُفضي دون أدنى شكّ إلى فضّ وحدة الصفّ وتشتيت الانتباه عن قضيّتنا الأساسيّة، وستخلق بلبلةً وجدلاً واسعًا نحنُ في غنى عنه، خاصّة في هذه المرحلة، ستتسبب في انقسامات وظهور طوائف جديدة بين الشعب، وبالتّالي سيفشل الحراك وسيتكرّر سيناريو الخيبة والهزيمة الذي تعوّدت على إخراجه هذه "النّخب" السياسيّة. الحقيقة أنّنا سئمنا منهم جميعًا، من تلك الوجوه المعتادة، ومن خطاباتهم… فالأجدر بهم أن يكفّوا أيديهم عن ثورتنا، أم أننا نطلبُ المستحيل حين نُطالبكم بذلك؟

 

بالرغم من هذا، فأنا لست متشائمةً تمامًا. فالحراك ما زال حُرًّا حتّى الآن، مازال يُسمِع صوت الشّعب ومطالب الشّعب، صحيحٌ أنه يتّسم بضُعفِ الرؤية مع أهدافٍ فضفاضة غير مضبوطة وهُزالٍ في التنظيم، فالجماهير الكادحة في الشّارع، التي نجد شواهد لها في كل حيّ وموقع عمل، تفتقر إلى تعبير سياسي يحوّلها من طاقة غضب وجملة اعتراض إلى بديل يقود الشارع وينقذ الثورة من مآزقها الراهنة. لكنّه كذلك يتضمّن آفاقًا للتغيير لم تشهدها الجزائر منذ ما أكثر من عشرين عامًا. فما هذه إلاّ البداية، مُجرّد بدايةٍ، لموجاتٍ من التمرّد على النّظام السياسي والاقتصادي السّائد، بغضًا للديكتاتورية وبحثًا عن حلم الديمقراطية التمثيلية، بداية لمعركةٍ من أجل نزاهة الصناديق، وكأنّ الصناديق الشفافة صارت اليوم تحتاج أن تُبخّر حروف صرخاتنا من حولها حتّى تبوح هي بأسرارها التصويتية.

 

إنّ الصفة الأهم لثورتنا منذُ البداية حتّى الآن هي "السلميّة"، فهي كانت ولا تزال ثورة العزل ضد سلطة المدججين بالسلاح -وعلينا أن نُحافظ عليها كذلك-، وكذا "الشعبيّة" حيثُ ضمّت كلّ الطبقات والأطياف والفئاتِ العمريّة، لا ثورة شبابٍ تمرّدوا على الكهول والشيوخ كما يحلو للسادة في الإعلام السائد أن يتملّقوا شبابنا، وحتّى وإن كانت كذلك، أوَليس الشباب هم دائمًا وقود الثّورات ومُشعلوها؟ أم أنهم يقصدون بشبابية الثورة، الشبابية الشعبية التي لا تفرق بين طبقةٍ وطبقة؟

 

لكنّ الساسة اليوم مصرّون على تشويهها وسرقتها منّا، فصارت الثورة ضمن صراعٍ بين قوى تتنازع على المستقبل لتشكيله وفق مصالحها ومنظورها. رغم أنّها ما زالت في طور التشكّل والتّبلور. لذا كان لِزامًا علينا كواجبٍ أوّل المشاركة في حماية ثورتنا وصناعتها، والنضال ضد سرقتها، قبل محاولة إصدارهم أحكام على عملية لم تنضج ثمراتها بعد. كلٌّ منّا في محيطه وفي مجال تخصّصه وبما يقدر عليه، بالقلم بالصّوت لا يهمّ، المهم التوعية الجماهيريّة.

 

وعلينا أن لا ننسى خلال ذلك وفي خضم نشوة اكتشاف قوة الجماهير الجماعية وقدرتها على تغيير العالم المفروض علينا، تناقضات الواقع والمفارقة بين ما يظهر على السطح وما يكمن في عُمق الشّارع، ذلك الاختلاف الفكري الموجود في عقول الكادحين والمظلومين. فهي أمور لا نختلقها بعقولنا، بل حقيقة يفرضها علينا النظام الاجتماعي المتناقض الذي نعيش فيه. والسبب في ذلك تجارب الحياة ومصادر الوعي المتناقضة، فإن كُنّا نحن المثقفين وأبناء الطبقة الوسطى، الذين لديهم ألف طريق وطريق لتحقيق ذواتهم، قد شعرنا بنشوة النّضال الجماعي، فتخيلوا بأيّ شعورٍ شعر أولئك الذين لفظهم المجتمع على مدى سنوات طِوال؟ لذا وجب علينا أن نُحسن التّعامل معهم، كلٌّ حسب مستوى وعيه.

 

صحيحٌ أنّنا في مرحلة ضبابيّة، وسط ضجيج من الأحداث المتوالية الذي يصم الآذان، والتفاصيل الكثيرة التي أغرقتنا منذُ 22 فبراير أو قبله بقليلٍ إلى اليوم، وهي أسبابٌ تمنعنا من تأمّل المشهد في شموله لاستخلاص العبر وإدراك الآفاق الممكنة. لكن الرصيف الذي سننجو إن طلناه، هو الإمساك بالخيط الجوهري في هذه الثورة التي شَيّدت بكل اختلافاتها وتناقضاتها، جسرًا إلى عالم جديد إن عبرنا عليه قد نجد على الجانب الآخر ما نصبو إليه من عدلٍ وحرية وديمقراطيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.