شعار قسم مدونات

عندما تتلاعب السياسة بالدين.. بين فكر المودودي وسيد قطب

blogs المودودي وسيد قطب

تتابعت الأحداث السياسية للبلاد الإسلامية بعد اتفاقية سايكس بيكو (1916) وتفكك الأقاليم كدُوَل بالشكل الذي يرضي بريطانيا العظمى وقت ذاك.. وعندما سقطت السلطنة العثمانية (1923) كثرت الخلافات والنزاعات ووُضعت الحدود بالحروب والدماء المهدورة، مما جعل كثيرا من المسلمين يتعطشون لإعادة الخلافة الإسلامية مرة أُخرى، وما زالت الأحلام تراودهم حتى الساعة، فيندفعون للتمسك بأي بارقة أمل قد تعيد للأمة وحدتها وعزتها ومكانتها.. ‎وعند الحرمان تَكثر الأوهام وتُزرع ألغام اللئام؛ لاسيما والدين في حلبة السياسة إذا تلاعبت به على نحو يُغذِّي الفرقة ويثير النَّعرة ولا يولِّد أُلفة ووِحدة.. فكيف بدأت القصة؟

أثارت فكرة "الحاكمية" التي نادى بها أبو الأعلى المودودي عقب انفصال باكستان عن الهند سنة (1947) حفيظة بعض من المفكرين والعلماء عبر توالي السنين، وتبنَّاها آخرون مثلُ المفكِّر الإسلامي (سيد قطب). والحاكمية هي أن الله هو الحاكم الأوحد ذو السلطة المطلقة، وهي نابعة من أنه الخالق للكون وللإنسان وأنه مستحق للعبادة والطاعة من هذه الزاوية. بل إن الطاعة حق ينفرد به الخالق حصريًا، ومن ثم يمنحه لمن شاء بالحدود التي يشاء، وقد أمر الله أن يتحاكم المجتمع إلى شريعته التي تصلح لكل زمان ومكان، وهي تملك الصلاحية الكافية لتقويم وصلاح ونفع أي مجتمع بإشاعة العدل والنفع والخير والبعد عن الأهواء البشرية.

رأى المودودي أن الحاكمية في النظام الديموقراطي الذي حاربه هي حاكمية الجماهير، وأن حقيقتها هي تنفيذ أهواء الناس ورغباتهم، وأن جوهرها هو سيطرة حفنة من الناس على الآخرين، وأنها ليست من الإسلام في شيء

وللإنصاف لا يمكننا أبدا أن نفهم هذه الأفكار َوتجلياتها ومهاجميها ونقَّادها إلا بمعرفة الحيِّز الذي تتحرك فوقه هذه الأفكار سياسيًّا. وعلى إثر ذلك لابد أن نعي الظروف التاريخية والوقائع السياسية والمجتمعية التي كتب فيها النُّقاد ووُضعت فيها الدراسات حول هذا المصطلح السياسي.. وعلينا أن نضع في الاعتبار سؤالا آخر.. هل وضعوا هؤلاء تلك الوقائع التاريخية نصب أعينهم أم غضوا الطرف عنها؟ فمن خلفية الظروف السياسية التي نشأ فيها أبو الأعلى المودودي والتي أدت إلى تكوُّن فكرته.. كانت البداية أولًا في الهند قبل تقسيمها، وبعد أن قُسمت أصبحت الآمال معقودة لدى الإسلاميين في أن تكون باكستان هي الحاضنة لهم وللدولة الإسلامية الناشئة.. فماذا بعد الانفصال؟

قامت باكستان على أساس الفكرة القومية الإسلامية أو الإسلام الجغرافي والنظام الديموقراطي، ثم اختلف بعد ذلك من كان ينادي بهذا المشروع من السياسيين في تطبيقه وآثر أغلبهم المطامعَ السياسية على المشروع الإسلامي. فهل كان المودودي وهو قامة علمية لا يُستهان بها لا يُزعجه هذا التحول الواضح في المنهج عندهم؟! وماذا بعد صدمة إيهام المسلمين بأنهم ذاهبون لإنشاء دولة باكستان المسلمة، وبعد ذلك تبينت المطامع الشخصية لمن كان ينتمي للجماعة الإسلامية وهي ولعٌ بالمناصب وشغفٌ بمقاعد المجالس التشريعية!

رأى المودودي أن الحاكمية في النظام الديموقراطي الذي حاربه هي حاكمية الجماهير، وأن حقيقتها هي تنفيذ أهواء الناس ورغباتهم، وأن جوهرها هو سيطرة حفنة من الناس على الآخرين، وأنها ليست من الإسلام في شيء.. ولا تغيّر القوانين إلا برأي الجمهور ولا تسن إلا حسب ما توحي به عقولهم، وأن غيرَ ذلك يُضرب به عرض الحائط ويخرج من الدستور إخراجًا.. في حين أن الحاكمية في النظام الإسلامي الذي دعا إليه، هي لله وحده.. "وحقيقتها تنفيذ شرع الله وجوهره سيطرةُ عبيدِ اللهِ الموحدين".

لقد حدد مركزية الخلاف والاختلاف بقوله: "إنما تختلف ديموقراطيتنا الإسلامية العريقة عن الديموقراطية الإسلامية الناشئة أن الأخيرة تتبنى مبدأ سيادة الجماهير المطلقة من كل قيد سوى ما تصنعه الجماهير لأنفسها، ونحن نعتبر هذا المبدأ باطلًا في حقيقته يجر إلى العواقب الوخيمة الهدامة لأن الذي عليه واقع الأمر في هذا الكون هو أن حق السيادة لله وحده الذي خلق البشر". وبهذا فهو يرفض حكم البشر لذاتهم، ويرى ضرورة "الثورة" على أي نظام متجرد من "الحاكمية" ، لكن الثورة عنده لم تكن كما صورها كثير من الذين انتقدوه فكانت كما قال مناصحًا في خطاب له لحشد من الشباب في الحج عام (1963): "أدعوكم بألَّا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف وأن تتحاشوا استخدام العنف والسلاح لتغيير الأوضاع، لأن هذا أيضا نوع من الاستعجال الذي لا يجدي شيئا ومحاولة للوصول إلى الهدف بأقصر طريق، إن هذه الطريقة هي أسوأ عاقبة وأكثر ضررا من كل صورة أُخرى".

تأثر سيد قطب بمنهج المودودي وهو الذي اطَّلع وقرأ كتابات الأخير أثناء فترة اعتقاله في حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر.. وقد أصبح عبد الناصر قوميًّا اشتراكيًا بعد أن تحالف مع الإسلاميين وكان معهم في كل ما دبروا له قبل ثورتهم على الملكية، ثم انقلب وحارب كل ما هو مرتبط بالفكر الإسلامي حربا لا هوادة فيها.. وهكذا تشابهت الظروف والوقائع السياسية بين ما حدث في الهند وباكستان وبين انتهاء الحكم الملكي في مصر وقيام الحكم القومي الاشتراكي.. وإذا تتبعنا كتابات سيد قطب وتكوُّن الصورة عنده، ومن ثمَّ القواسم الفكرية الأخرى المتشابهة فلن نجد غرابة في تأثر قطب بالمودودي إذن؟!

undefined

في سجنه خط كتابه الأشهر (معالم في الطريق) الذي قاده بعد طباعته بسنتين إلى الإعدام، فكان آخر ما طبع له في حياته.. ‎لقد برزت فكرة الحاكمية عنده بقوة لتأثره بالمودودي، لا سيما أن كليهما كانا في ظرف سياسي ويقظة فكرية متشابهة، وإن لم تجمعهما جغرافيةٌ واحدة. لكنهما وفي الحقيقة لم يكفِّرا أحدًا ولم يدعوَا إلى قتل أحد كما افترى كثيرٌ من خصومهما، وكما تهافتت تيّارات الغلوّ في اقتطاع بعض نصوص سيد قطب والمودودي وتطويعها بما يناسب غُلُوَّهم وخلت مقتطفاتهم الملتوية من أبسط أنواع الموضوعية العلمية. فهل كُتبت كل تلك الأفكار المتبنية أو الناقدة والمهاجمة وفي الرؤية الصورة متكاملة لتلك الظروف والملابسات المحيطة أم اُجتُزِأت الصورة لحاجات في النفوس؟

آثر كثيرٌ من المشتغلين بالعلوم الشرعية البعدَ عن السياسة والزهد فيها بدعوى العمل للآخرة وترك السياسة للحكام على قاعدة "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" يديرونها كيفما شاؤوا طالما أنهم لم يمنعوا الناس من الصلاة!.. ولا شك أن جانب العبادة مهم في الإسلام، بل وهي الغاية التي خلقنا الله من أجلها، لكن هل العبادة لله لا تكون إلا بالصلاة والمساجد فحسب؟ جميل أن يذكروا ما تعلق بالعبادة الخاصة بما جاء في القرآن والسنة، ولكن قبيح جدًا بمثلهم أن يتجاهلوا المعنى الأكمل والأشمل. كيف أضعنا مقاصد الإسلام التي جاءت أُخرويةً ودنيوية في آن واحد؟! كيف تجاهلوا نصوص القرآن والسنة الداعية إلى الحاكمية وشواهد التاريخ الإسلامي أظنُّها بين أعينهم؟!

في كل مرحلة من مراحل التغيير السياسي، من الطبيعي جدًا أن تتسع الدائرة لكل حلقة نقاشية ناقدة، شريطة أن تتصف بالموضوعية المجردة عن الأهواء المتنفذة من قِبَل أي سلطة.. فلا تخلو الأمة من ذلك.. لكنَّ الطامة في الظروف المحيطة أن يُستخدم الدين عمدًا أو عن غفلة وتغافل في دعم مشروعات سياسية يعلو فيها جانب على آخر.. بما يجعل الأمة منشغلة ومختلفة فيما بينها، وبما يساعد في ضياع الجهود الفكرية والقامات العلمية في مرحلة خطيرة تتطلب الجمع بين كل الأفكار بتبنٍ صحيح لها.. بعيدا عن تدخل السياسة المتنفذة التي قد تستخدم في الجانب الآخر كل هذا الاختلاف في صالح بقاء الأنظمة الاستبدادية، وليس في صالح الدين نفسه الذي ما جاء إلا لهدم الاستبداد في جميع صوره.. وما جاء إلا لينظِّم حياة الإنسان في العبادات والمعاملات والسياسة (حتى لا تكونَ فتنة ويكون الدِّين كله لله).
——————————————————————————————————–
المصادر:
– التفسير السياسي للإسلام (أبو الحسن الندوي/ دراسة وتعليق: عبدالحق التركماني)
-نظرية الإسلامي وهديه في السياسة والقانون والدستور (أبو الأعلى المودودي)
-الإسلام والمدنية الحديثة (أبو الأعلى المودودي)
-المودودي نحو ثورة إسلامية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.