شعار قسم مدونات

لماذا لا يتحجّب الرجال؟

blogs حجاب

في ظلال فكرة "المساواة" في كل شيء يُطرح هذا التساؤل: لماذا فُرض الحجاب على النساء دون الرجال؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال، على بداهتها، ينبغي أن تنطلق من رصد الفروق الفطرية بين الجنسين، فقد ظهر لي من خلال تدبّر أحكام الشريعة المتعلّقة بالجنسين والأدوار الاجتماعية التي تسندها الشريعة لكل منهما أنها مرتبطة ارتباطًا وطيدًا بالطبيعة الفطرية أو البيولوجية لكل من الرجل والمرأة، ولا بدّ لنا قبل التفصيل من مقدّمتين تمثّلان مدخلين ضروريّين لفهم الموضوع.

 

المقدمة الأولى: ما الذي يُبنى على الفروق الفطرية بين الرجال والنساء؟

هناك ثلاثة موضوعات يتم تداولها عندما يُطرح هذا السؤال:

1) الموضوع الأول: وسم الرجال بأفضلية أخلاقية بناء على تفوق خَلْقي أو بيولوجي: أي الزعم بأنّ الرجال أفضل كجنس من النساء، وتحميل مفردة "أفضل" دلالات تفيد التكريم، أي تجعلها "قيمة" تُضاف لصالح الرجال. وهذا فَهم مغلوط، إذ النصوص القرآنية المحكمة تربط القيمة بالتقوى، أي بـ "الكيان الاختياري" للإنسان، فنوايا الإنسان وأعماله هي التي تحدّد قيمته، وقد تكون بعض النساء – بهذا المعنى – أفضل أو أكرم من بعض الرجال، فالجنس وحده لا يعطي قيمة إضافية. ولكن الفضل المقصود هو بمعنى "زيادة في شيء" كما يقول ابن فارس، كقوله تعالى عن الثمرات: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ}، روى الترمذي في جامعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عنها: "الدَّقَلُ والفارسيُّ والحُلْو والحامضُ". فأنت تفضل الحلو حين ترغب به على الحامض، وقد تحتاج الحامض في حالة أخرى فتفضّله على الحلو، ولكنك لا تنسب إلى أيّ منهما قيمة وتفوّقا خَلْقيّا، فجميعها من الله، وجميعها {يُسقى بماء واحد}! والخلاصة أنه لا مجال لجعل الفروق الظاهرة بين الرجال والنساء في أصل الخلْقة دليلا على أفضلية قيمية للرجال أو للنساء.

 

الله ألزم الرجل بحدّ أدنى من الملابس لستر جسده، وألزم المرأةَ بحدّ أدنى مختلف من الملابس لستر جسدها، وإنّ هذا الاختلاف في طبيعة الستر والأجزاء المستورة بين الجنسين مرتبط بالاختلاف في الطبيعة الفطرية بينهما

2) الموضوع الثاني: جعل الرجال بناء على هذه الفروق أكثر ذكاء أو أقدر علميّا من النساء: وهذا المجال أيضا إشكالي؛ فرغم وجود دراسات توصلت إلى نتائج تفيد تفوّق الرجال في مهارات عقلية معينة تتناسب مع علوم معيّنة، فإنّ الحُكم بخصوص القدرات العلمية وبخصوص الذكاء ينبغي أن يكون في النهاية فرديّا، وهذا الحكم الجماعي لا يُبنى عليه شيء مفيد. والسبب في ذلك أنّ التفاوت الموجود بين أفراد الجنس الواحد كبير جدا، فستجد من الرجال البسطاء في التفكير من ذكاؤه وقدراته العلمية أدنى بمراحل من بعض النساء، والعكس صحيح، أي أن التفاوت حاصل في الجنس الواحد، ولهذا ينبغي أن يكون الحكم في هذا المجال فرديا، فمثلا: لو تقدّمت امرأة إلى وظيفة في مجال الفيزياء فنحن نحكم عليها بناء على قدراتها، فإذا ناسبت قدراتها العلمية الوظيفةَ فلا فائدة من أي دراسة تتحدث عن تفوق الرجال في هذا المجال! أي أن المؤسسات العلمية ينبغي أن توظّف بناء على الكفاءة بغضّ النظر عن الجنس، فلا تتخذ مسبقا موقفا يفضّل الرجال، ولا تخصص مقاعد علمية أو وظيفية للنساء بناء على جنسهنّ فقط!

 

3) الموضوع الثالث: الربط بين الطبيعة البيولوجية وبين الأحكام الشرعية المتعلّقة بكل من الجنسين أو الأدوار الاجتماعية التي أسندتها الشريعة إلى كلّ منهما: فهذا هو المجال الرحب للتأمل والتدبّر، وهو مجال هذه التدوينة، مع التأكيد على أنّ الحديث يدور عن الأدوار الاجتماعية التي قرّرتها الشريعة، لا تلك المرتبطة بالأعراف والتي تتغير من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر.

 

المقدمة الثانية: الرجال يتحجّبون، وحجابُ المرأة فرعٌ عن أصل

عندما يُطرح السؤال الذي في العنوان يبدو وكأنّ الرجال لا يلتزمون بشيء من الملابس للستر، وهذا منافٍ للحقيقة، فالرجل مُلزَمٌ شرعًا بحدّ أدنى من الملابس، فإذا طرحنا مصطلح "الحجاب"، يمكننا أن نقول: إنّ الله ألزم الرجل بحدّ أدنى من الملابس لستر جسده، وألزم المرأةَ بحدّ أدنى مختلف من الملابس لستر جسدها، وإنّ هذا الاختلاف في طبيعة الستر والأجزاء المستورة بين الجنسين مرتبط بالاختلاف في الطبيعة الفطرية بينهما. يقول سبحانه: {یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمۡ لِبَاسࣰا یُوَ ٰرِی سَوۡءَ ٰتِكُمۡ وَرِیشࣰاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ}. وهذه الآية تحدّد ثلاث وظائف/أشواق/علاقات مع اللباس:

1) وظيفة الستر {يواري سوءاتِكم}.

2) محبة الإنسان للجَمال والتأنّق {وريشًا}.

3) الإرادة القلبية السليمة {ولباسُ التقوى خير}، فالتقوى فعل قلبي في الأساس، وكل إنسان يعرف ماذا يريد من ملابسه، أي أن الوعي الذاتي والضمير الداخلي لكل إنسان هو الركن الأساسي فيما يتعلق بأحكام اللباس، فقد ترتدي إحداهنّ ما يسمّى بـ "الجلباب" الشرعي، ولكنها تجعل قصدًا في بعض تفاصيله ما يجلب الفتنة ولا يفي في الحقيقة بمقصد الشرع وهو إخفاء الفتنة، حتى لو استوفت الحجاب الشرعي "شكليّا" أو "اسميّا". وقد يرتدي شاب ملابسه بطريقة معينة، معتمدا على أنّه يستر العورة شرعًا، ولكنه يعلم في دخيلة نفسه أنه اتخذ بعض "الحركات" في ملابسه بهدف "الإثارة"، كفتحه مثلا لمعظم أزرار قميصة وما تثيره هذه الحركة من عدم انضباط غير محمود، فهذا راجع إلى ضميره ومقاصد قلبه. فالضابط هنا هو الدافع الذاتي وضمير الإنسان، فهو يدرك مقاصده عادة من الملابس، ويعلم تمامًا ماذا يريد من المظهر الذي يختاره لملابسه.

 

فضلا عن ذلك، يرتبط مفهوم "الملابس" ارتباطًا وثيقا بالغاية من خلق الإنسان، وورود هذه الآية التي ذكرناها في سياق قصّة آدم له دلالة كبيرة، فقصة آدم هي المنطلق الذي نفهم من خلاله طبيعة هذا الإنسان ودوره في الحياة والغاية التي من أجلها خلقه الله. ولعلّ قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يمثّل الأساس الذي ننطلق منه لفهم طبيعة الإنسان، ثم لفهم عموم التكاليف وعلاقتها بهذه الطبيعة.

 

فالآية تدلّنا على بعض الحقائق: أنّ هذا الإنسان "خليفة" الله في الأرض، اقتضى ذلك تزويده بحرية الاختيار والإرادة، وهذا ما أحسبه قد أثار فزع الملائكة؛ إذ إن معادلة حرية الاختيار والإرادة + الهوى والجهل والشهوات تحقّق "فسادًا" في حسّ الملائكة الكرام. ولكن الله تعالى علمَ ما لم يعلموا، وأبان لهم بأنّه علّم الإنسان وأعطاه من الأدوات ما يجعله قادرا على تجنّب معادلة الفساد، فأعطاه العلم بالأسماء {وعلّم آدم الأسماء كلّها}، وأولُ هذه الأسماء أسماء الله، فعرّفه بأسمائه وصفاته ليدعوه وليتقرب إليه، وليخشاه ويخافه ويرجوه وينيب إليه ويَعرفه حقّ المعرفة، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته توهجّت في قلبه أنوار الإنابة إليه وضبطَ أهواءه. ثم أعطاه المعرفة والعلم عمومًا والذكر والصلاة والدعاء وغيرها من "وسائل التزكية" ليقاوم أهواءه وجهله وشهواته التي تدفع به إلى الإفساد.

 undefined


لم تعد المعادلة على النحو التالي:
حرية اختيار وإرادة + هوى وجهل وشهوة = فساد، ونمثّل لها بالرجل الذي يشتهي زوجة الرجل الضعيف، فيهجم عليها ليأخذها دون رادع؛ لأنه حرّ مريد أولا، ولأنّه يشتهي ثانيا، وهذا فساد.

 

بل صارت على النحو التالي: حرية اختيار وإرادة + هوى وجهل وشهوة + معرفة الله وعلم وذكر ودعاء وصلاة وصبر (وسائل التزكية) = كفّ عن الفساد وضبط لحرية الاختيار والإرادة، ومن ثمّ يصبح المثال السابق على النحو التالي: حتى لو أعجبتك زوجة الرجل الضعيف، فلديك من وسائل الضبط والتزكية التي تردعك: خوفًا من الله، حبّا للعدل وإحقاقا للحق، تقوى للضمير، صبرًا على الفتنة.

 

ولهذا قال لنا في نفس السورة: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. فلم يُترك هذا الإنسان المستخلَف وحده، بل هناك هدى من الله عزّ وجل، وهناك حاجة لاتّباعه كي يصبح هؤلاء البشر {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. وفي سورة أخرى يكشف لنا القرآن الكريم عن معادلة النفس الإنسانية المستخلفة في الأرض: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.

 

ومن ثمّ تمثّل "أدوات التزكية" بمفهومها القرآني وبأشكالها المختلفة الدرع الواقي من الفجور والفساد. لن يصبح الإنسان ملَكا تامّ الامتثال؛ فإنّ "كلّ ابن آدم خطّاء"، ولكن "خير الخطّائين التوّابون"، حيث تمثّل "التوبة" بشروطها أحد وسائل التزكية والارتقاء.

 

نحن إذن أمام إنسان محاط بكل العوامل الدافعة للإفساد والفجور: الجهل، الشيطان، الأهواء، الشهوات. ولكنّه مزوّد بوسائل التزكية: المعرفة، الدعاء، العبادة، القرآن، الذكر، الصبر. وهذه المعادلة هي "الابتلاء" الذي من أجله خلق الله الموت والحياة: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.

 

هنا تماما يأتي موضوع "اللباس الساتر"، سواء للرجل أو للمرأة، فهو تكليف من ضمن منظومة الابتلاء التي تحافظ على اتزان الحياة من جهة، وتمثّل اختبارا للإنسان في هذه الحياة "المؤقتة" من جهة أخرى. فالإنسان مفطور على حبّ الجمال وعلى اشتهاء الجنس الآخر والتأثّر بعناصر الجذب في جسده، وهو في نفس الوقت حرّ مُريد، فإذا تُركت هذه الحرية والإرادة بغير وسائل تضبطها وتزكّيها وتسلك بها مسالك النجاة؛ ظهر الفساد. وهو ما نراه ماثلا أمامنا في المجتمعات الغربية التي تحررت من أي قيمة أخلاقية للملابس والعلاقات بين الجنسين، فظهرتْ فيها مختلف أنواع الشذوذ، بل تفكّكتْ فيها منظومة الأسرة وقلّ الإنجاب، وصارت شعوبًا تتناقص أعدادُها وتهرول نحو الانقراض!

 

إنّ إنسانية الإنسان لا تتمثّل بحرية اختياره ووعيه وإرادته فحسب، بل تتمثّل أيضًا بما وهبه الله من وسائل التزكية والضبط، وحين يتخلّى عنها الإنسان ينحطّ عن درجة الحيوانات كما أخبرنا الله {إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا}، وسبب كونه أضلّ من الحيوان أنّ الحيوان قد تكفّل الله عز وجل بضبط ميزان حياته من خلال "البرنامج الفطري" المغروس في كيانه، فهو مسيّر بالشهوة، تدفعه هرموناته وشهواته وما رُكب فيه إلى ممارسة حياته التي حافظت عبر آلاف السنين على النظام البيئي دون اختلال، بينما أدى تدخل الإنسان في الطبيعة إلى اختلال النظام البيئي؛ لأنه يملك من حرية الاختيار والإرادة مع الجهل والهوى، وحين يتخلى الإنسان عن وسائل التزكية يصبح أضلّ من الحيوان؛ لأنه سيكون عنصر فساد في هذه الأرض، بخلاف الحيوان الذي رُكّبَ فيه برنامج فطري يضبط مسار حياته.

 

فسترُ أجزاء من الجسد إذن هو نوع من أنواع الابتلاء، وهو وسيلة للتزكية في مجال الشهوة الجنسية تجاه الجنس الآخر، وكل "صبرٍ" على هذا الانضباط الذي يمثّله الستر بمعاييره الشرعية هو تحقيق لإنسانية الإنسان؛ لأنّ الإنسان إنسانٌ بمقدار ما يكون قادرا على ضبط شهواته تحقيقا لقيمة أخلاقية يعيها بعقله وقلبه، وإن رغبتْ عنها نفسه وتاقتْ إلى الانفلات منها.

 

هذا هو المنطلق العام لمفهوم ستر الجسد من خلال الملابس في الشريعة، والذي يسمى في حالة المرأة بالحجاب، إذ الحجاب ليس هو قطعة القماش التي تستر الشعر، بل هو حجب العورة والمفاتن الجسدية التي أُمرتْ المرأة بحجبها في الحياة العامة، كما أمر الرجل بحجب عورته في الحياة العامة. ومن هنا ندخل إلى سبب التفريق بين الرجل والمرأة في طبيعة هذا الحجاب.

 

المرأة "مفعول به" والرجل "فاعل": بيولوجيّا واجتماعيّا
أحد أهداف الجلباب الشرعي هو "التعريف"، أي أن الحجاب هنا عبارة عن "شعار" أو "هوية"، وأن فاعلية هذا الشعار في الحماية لا يتحقق تمامها سوى بوجود سلطة تقيم منظومة الشريعة المتكاملة بروحها

ثمة آيتان تتناولان علاقة المرأة بالرجال في المجتمع في سياق الستر وحجب بعض المفاتن، وكلاهما تتّسقان بشكل عجيب مع الطبيعة البيولوجية للمرأة، ومع الواقع الاجتماعي الذي شهدته البشرية وما تزال، كسمةٍ عامة لا كأعراف خاصة لمجتمع دون آخر. هنا سنرى كيف يتعالق النصّ الشرعي مع البيولوجيا مع السياق الاجتماعي. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. تؤسس هذه الآية لثلاثة مفاهيم متعلقة بالحجاب:

– المفهوم الأول: أن المرأة "مفعول به" لغةً وواقعًا، فهي التي "تؤذَى"، والرجل في هذه الحالة هو "الفاعل"، لأنه هو "المؤذِي". هنا تدخل المعطيات البيولوجية لتقرر الحقيقة نفسها، المرأة هي المعرّضة أكثر للأذى جرّاء الاعتداء الجنسي لسببين: 1) لأنّها أضعف عضليّا في أصل الخلقة، فهي معرّضة للأذى الجسدي أكثر من الرجل. 2) لأنّها وعاء الحمل، فالأذى الجنسي الذي يصيب المرأة لو تعرّضت لعملية اغتصاب لا يقارن بما قد يصيب الرجل لو افترضنا (مجرد خيال!) أنه تعرّض لمجموعة من النساء فاغتصبنَه! هي ستحمل أثرا ثقيلا وتبعات كبيرة لتسعة أشهر وما يليها، أما فهو فلا. فضلا عن كون عملية اغتصاب رجل تكاد تكون مستحيلة ميكانيكيّا! وهكذا يقول الفرق البيولوجي كلمته ويقرّر أن المرأة "مفعول به" والرجل "فاعل"، تماما كما يقرّر النصّ الشرعي.

 

أما السياق الاجتماعي فهو أيضا يقرّر الحقيقة ذاتها، فلو أجرينا إحصاءً في كل أرجاء العالم: من يمارس التحرّش أكثر؟ ستكون الإجابة واضحة دون تردّد: الرجل طبعًا! فهو – اجتماعيا – "فاعل" وهي "مفعول به". وهذا يجعلنا ندخل في المفهوم الثاني المنبثق عن الآية.

– المفهوم الثاني: أن أحد أهم مقاصد الحجاب هو المساهمة في حماية المرأة من هذا الأذى الذي قد ينالها من المفسدين في الأرض من الذكور. طيب هل هي حماية مضمونة؟ كلا، بل وليست وسيلة الحماية الوحيدة، ولكنها مؤثّرة خصوصا حين تنضم إلى وسائل أخرى للحماية، أما أثرها الأكبر فهو يجعلنا ندخل في المفهوم الثالث المستفاد من الآية.

 

– المفهوم الثالث: وهو يُفهم من قوله تعالى {ذلك أدنى أن يُعرفْن}، فالهدف ليس مجرّد إخفاء المفاتن الجسدية (وإن كان مقصودًا)، بل أيضًا "التعريف"، وهذا التعريف مرتبط بمنظومة متكاملة، أي بوجود سلطة شرعية تعطي قيمة لشعار الجلباب إن جاز التعبير، فالجلباب في هذه الحالة "دال"، والسلطة "مدلول"، وهذا الدال يفقد قيمة كبيرة حين يغيب المدلول، أي حين تضعف السلطة الشرعية المسؤولة عن حماية الإنسان. وقد كانت النساء المسلمات في المدينة في ظل سلطة شرعية لها دورها في ردع الفسّاق، فهذا "التعريف" في الآية موجّه للفاسق الذي تسوّل له نفسه بأذيّتها، وهو يرتدع لأنه يعلم عاقبة فعله لدى السلطة. ومهما قيل بأنّ القصد أن يُعرفنَ بأنهنّ حرائر ولسن بإماء أو عواهر فإنّ الدخول في هذه التفصيلات لا يلغي المعنى الذي نريد إثباته هنا: أنّ أحد أهداف الجلباب الشرعي هو "التعريف"، أي أن الحجاب هنا عبارة عن "شعار" أو "هوية"، وأن فاعلية هذا الشعار في الحماية لا يتحقق تمامها سوى بوجود سلطة تقيم منظومة الشريعة المتكاملة بروحها. وهذا يؤكّد أهمية وجود القوة الحضارية للإسلام في تفعيل أحكامه كما ينبغي، فالسيارة لا تسير بغير وقود وزيت وماء، وكذلك أحكام الشريعة الجزئية، لا تتحقق فاعليّتها كما ينبغي إلا ضمن منظومة متكاملة.

 

وقد يساهم هذا الوعي في التخفيف من وطأة النقاشات حول إذا ما كان الحجاب الشرعي بشروطه يؤدي فعلا إلى حماية المرأة من المتحرّشين أم لا؛ لأنها جميعا نقاشات تدور في واقع يفتقد لأحد شروط تحقّق هذه الحماية، وهو وجود السلطة والمنظومة المتكاملة للشريعة. علمًا أنه حتى في واقع فاسد لم تكتمل فيه المنظومة الشرعية، فإنّ الالتزام بالحجاب يساهم في ردع بعض الفسّاق الذين ينطلقون في تحرّشهم الخبيث من فكرة أن التي تستر جسدها أعصى على الغواية وأكثر جدّية فيصرفهم ذلك عنها. والأهم أن هذه ليست وظيفة الحجاب الوحيدة حتى يبنى عليها خيار ارتدائه من عدمه، فهو حكم ثابت مرتبط بالثوابت من فطرة الإنسان، وحتى في أشد المجتمعات تمسّكا بالشريعة (كمجتمع الصحابة) لم يخلُ الأمر من تعرّض للنساء، فلا أحد يتحدث عن بلوغ الحالة المثالية، ولكنه جهدٌ في تجنّب أذى المفسدين.

 

أما الآية الثانية فهي قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}. وهذه الآية وإنْ كانت لا تتحدث عن الحجاب ولكنها تدل على مسار "الفاعل" و"المفعول به" الذي ذكرناه؛ فالذي قد يطمع ويمارس الإفساد هو الذكر "الفاعل"، والمرأة في هذه الحالة ستكون "مفعولا به".

 undefined

وهناك مفهوم آخر تشير إليه الآية، وهو أنّ في صوت المرأة من عناصر الجذب الجنسية/الجمالية ما ليس للرجل، ويبدو هذا أيضا في الحكم الشرعي الذي فرض عليها ستر أجزاء من جسدها أكثر من الرجل، وهو يتّسق اتّساقًا تامّا في كونها "مفعولا به" بيولوجيا واجتماعيا؛ فالرجل هو الذي يطلب المرأة وليست هي التي تطلبه، ومن ثم كانت هناك ضرورة لوجود عناصر جذب جنسية/جمالية بشكل أبرز لدى المرأة لجذب هذا الرجل حتى تستمر البشرية في التناسل وإعمار الأرض، فعناصر الجذب الجنسي/الجمالي هي للإقبال على المرأة من خلال الزواج ولإنجاب الأطفال، إلى جانب تحقيق المتعة لكلا الجنسين. ومن هنا كانت أهميّة حجب مفاتن المرأة الجسدية عن الحياة العامة كي لا تصبح مشاعًا، وللحفاظ على المسلك الشرعي الصحّي للعلاقة الزوجية والجنسية.

 

فإذا أنكر منكِرٌ ذلك أحلناه إلى المعطى الاجتماعي الصارخ وقلنا له: لماذا تركّز الموضات الشيطانية المعاصرة على إبراز مفاتن النساء وأجزاء أجسادهنّ بما لا تفعل عُشر معشاره مع الرجال؟! ولماذا تستخدم الإعلانات الفتيات ومفاتن أجسادهنّ أكثر مما تفعله مع الرجال؟ لأنّها تعرف أنّ مفاتن المرأة الجسدية أبرز مما لدى الرجل. وما زالت ملابس الرجال الرسمية حتى اليوم وفي أكثر البلدان تهتّكًا محافِظةً على سَتر معظم أجزاء الجسد، بينما نجد فتحات الصدر والجيبات القصيرة وغير ذلك من عناصر الفتنة في ملابس النساء الرسمية في حضارة الغواية.

 

لقد فرض الإسلام على المرأة حدّا أدنى من حجب عناصر الجذب الجنسي والجمال عن الرجال الغرباء في الحياة العامّة، كالشعر وتفاصيل الجسد وترقيق الصوت والتغنّج فيه. كما أنّه فرض على الرجل حدّا أدنى من حجب المفاتن كتغطية العورة وتهذيب ملابسه، وكعدم الجلوس في الطريق العام بغير سبب معقول وبغير ضوابط، وكغضّ البصر وغيرها من الأحكام التي تضبط علاقة الرجل بالجنس الآخر. وأحكام الضبط هذه بمجموعها هي من "أدوات التزكية" التي ذكرناها سابقًا، وهي بمجموعها تهذّب العلاقة بين الجنسين، وتحافظ على المسالك الصحّية للتواصل الجنسي والتكاثر من خلال منظومة الأسرة.

 

إنّ هذه المنظومة التشريعية المتكاملة، لا أحكام الحجاب فقط، تعمل على الوصول إلى حياة زوجية حميمية؛ فحين ينفرط عقد الحشمة، وتصير الأجساد العارية هي مظهر الحياة العامة وضمن المتناول السهل، فما الذي تبقّى من حميمية الزواج؟ ومن الذي سيسعى إلى ربط نفسه بزوجة وأسرة ليكون ذلك منفذه لممارسة الجنس والعلاقات متاحة له في المجتمع الحرّ؟

 

ما زلت أذكر نقاشي قبل سنوات مع أحد الشباب اللاأدريين الذين لا يلتزمون بأي دين حين قال لي إنّ الممارسة الجنسية في بيوت الدعارة لن تصل إلى جمال تلك الممارسة في ظل الحياة الزوجية! إنّ هذا اللاأدري الذي هام على وجهه مخدّرًا في صحاري أمريكا بحثًا عن الحقيقة قد نطق في لحظة صدق بتلك الإشارة اللطيفة التي أومأتْ إليها الآية الكريمة: {هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسࣱ لَّهُنَّ}، فهذه الآية تبعث معاني السكون والحميمية في الحياة الخاصة بين الزوجين، والتي سينغّص عليها ذلك التعرّي في الحياة العامة والإباحية والانفلات في العلاقات، وسيثبّط الرغبة في تشكيل حياة زوجية خاصة، ومن ثمّ الرغبةَ في بناء أسرٍ متماسكة تؤمّن استمرار أجيال البشرية. ومن جملة ما نقم ذلك المجرم النيوزيلاندي على المسلمين تماسكهم الاجتماعي وتقاليدهم العريقة ومعدلات المواليد المرتفعة لديهم، مدركًا ما حلّ بحضارته الغربية من اضمحلال وشيخوخة تنذر بالفناء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.