شعار قسم مدونات

تخلص من نرجسيتك فأنت مجرد شخص عادي!

blogs مجتمع

قبل مدة ليست بالطويلة كنت أعمل على مشروع بحثي يتطلب القيام ببعض اختبارات الذكاء أو الـIQ على زملائي في الجامعة. لاحظت حينها أن معظم الطلاب يتجنب أن يعرف معدل ذكاءه التقريبي ولا حتى من باب الفضول. الكل كان يخشى أن يصطدم بحقيقة أنه مجرد شخص عادي بمعدلات ذكاء ضمن المتوسط العام، يخاف أن تنهار أمامه كل أوهام التميُّز والاختلاف.

 

الحقيقة التي تكمن تحت هذا التصرف البسيط تدلل على أن معظم البشر متخمون بذواتهم حتى الامتلاء، ربما هذه هي طريقتهم في البقاء التي لم ينتبه لها داروين في نظريته الارتقاء والنشوء، لعل هذا هو سرهم الذي تميزوا به عن الديناصورات، تلك الكائنات الرهيبة التي انقرضت عن كوكبنا البائس ونجت بجلدها عن المآسي الروحية التي كانت تنتظرها لو حدث العكس ونجت هي بدلاً عنا. لم تكن صدفة إطلاقاً أن الخطيئة الأولى التي ارتكبت في هذا الكون كان دافعها "ذات نرجسية" ترى في نفسها كياناً متمايزاً عن الآخرين، ذات تعتقد بأنها لا يجب أن تسري عليها الأوامر الإلهية كما تسري على الجميع، "أنا خير منه" هكذا لخص إبليس دوافعه النفسية التي لأجلها تمرد على أوامر الإله.

 

التمييز الوحيد الذي يحوزه بنى البشر يكمن في شخصياتهم المتمايزة كـ أفراد وفي تركيباتهم الفكرية المختلفة، وليس في قوى خارقة تجعلهم محصنين من المصائب والحتميات البشرية

هذه الذوات المتضخمة هي أصل كل شر كما يقول الفيلسوف الألماني الشهير كانط، هي أيضاً مهندس الأوهام والخيالات التي تسكننا كبشر، أوهام العظمة والتميز التي أنتجت لنا كل الأيدولوجيات التي نسجت خيوط الدكتاتورية والتجبر وفتكت بالملايين حول العالم، المشكلة أن أدمغتنا بتركيبتها المعقدة تهمس لنا باستمرار بأننا مختلفون، بأننا أفضل من غيرنا، وأن حتى قوانين الحياة التي تسري على الجميع لن تنطبق علينا كما الآخرين. الموت الذي يصيب الآخرين حتماً بطريقة ما سيتجنبنا، الكوارث التي تحل بجيراننا وأصدقائنا نحن محصنون منها تماماً، الرجال الذين ترفضهم الفتيات هم ليسوا مثلنا.

 

هذا التمييز والاختلاف المزروع عميقاً في تركيبتنا غالباً ما يكون انهياره مروعاً، لحظة أن نكتشف أننا عاديون جداً، وأننا لسنا أفضل من أحد، ولسنا محصنين من الفقد أو الرفض، أو حتى الموت. لحظة أن يكتشف هذا العادي أنه ليس بدعاً من البشر، حينها إما أن ينهار، ينغلق على نفسه، ويتحول إلى وحش شرس ناقم على العالم. وإما أن يشرع في أن يخترع لنفسه ذاتاً جديدة لكن هذه المرة مزيفة وبمواصفات تراعي ظروف السوق والطلب الاجتماعي، يدعي بها التمييز والترفع على الآخرين.

 

التمييز الوحيد الذي يحوزه بنى البشر يكمن في شخصياتهم المتمايزة كـ أفراد وفي تركيباتهم الفكرية المختلفة، وليس في قوى خارقة تجعلهم محصنين من المصائب والحتميات البشرية، أو مستحقين دون غيرهم من البشر للتبجيل والتقدير. ليس من عيب في أن يتقبل الإنسان ذاته كما هي، أن يتقبل "عاديته"، وأنه في النهاية مجرد بشر يولد ويموت، يعيش كما الآخرين، وتسري عليه كل قوانين الكون الذي هو جزء منه. النقطة المفصلية التي يجب أن ندركها هي أننا لسنا بحاجة لأن نثبت تميزنا لأحد، يكفينا أن نكون مميزين في عيون أحبائنا، يكفينا شخص واحد على هذه الأرض يشعر بأننا مهمين بالنسبة له، ومميزين في عينيه.

  

لك أن تعلم أنك لست بدعاً من البشر، وإن سولت لك نفسك غير ذلك، حتى الأنبياء قالوها لنا عن أنفسهم أكثر من مرة " إن نحن إلا بشر مثلكم " وطالبونا أن نتقبل هذه الحقيقة، وأن نتحلى بالقليل من الواقعية، بالتأكيد نحن لسنا أنبياء ولكننا على الأقل بشر "مثلهم " تجري علينا جميعاً حتميات البشرية دون أيما استثناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.