شعار قسم مدونات

تسويف السعادة.. هل تدمر الغربة أحاسيسنا الجميلة؟

blogs تفكير

منذ سنواتنا الأولى في المدرسة تعلَمنا وحفظنا عبارة "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد فإن للغد عملا أخر"، لكن للأسف هذه المقولة نادرًا ما نَعمل بها في حياتنا اليومية، فدائما يَطغى ويغلب علينا الإرجاء والتّسويف ليس فقط في الأعمال التي نرغب في فعلها أو إنجازها بل حتى في أمرٍ مهم وهو السعادة التي لا ينتبه إليها كثير من الناس، خاصة المغتربين الذين يعيشون في منأى عن أوطانهم وبلدانهم الأصلية، وبالذات هذا صنف يُسوّف سعادته إلى حين عودته إلى الوطن الأم، وهذه زلّة جسيمة.

يظل هؤلاء المغتربون عن الأوطان يَحيَون حياتين، حياة أولى حيث ازدادوا وترعرعوا فيها وحياة أخرى غريبة هاجروا نحوها عن طواعية واختيار أو عن إجبار وإكراه، حيث يعيشوا على أمل وشوق العودة إليها يوماً ما، لهذا يُرجئون ويؤجلون سعادتهم إلى حين رجوعهم من المهجر، كأن الحياة تترقّب عودتهم على أحرّ من الجمر، رغم أن غدرها ومكرها وارد ٌ في أي لحظة وحين. العديد من المغتربين حَنّتثهم الحياة وغرّرت بهم، وعاشوا طوال أعوام على رجاء العودة والاستمتاع والتمتّع بما جمعوه وعدّدوه من أموال، حتى صدمهم الموت الزُّؤام وأزال غشاء الحياة عنهم، وقضوا نحبهم في غربتهم دون أن يتلذّذوا قيد أنملة بتلك السعادة التي أجّلوها لأجل غير مسمّى، رغم أنه لا توجد طريق للسعادة، فالسعادة هي الطريق على حد قول واين داير، لكن الغالبية لا تعرف هذا، فالتكاثر ألهاهم.

إنّ تأجيل السعادة ليوم غير معلوم يبقى أمراً ساذجاً ولا يبعث على عين المعقول، فأغلب المغتربين حين يقصدون بلدان الهجرة يكونون في ريع الشباب والفِتاء ويغفلون عن فترة يستحيل تعويضها ولوا أرادوا أن يشتروها بمال الدنيا، ما قدروا عليها، فالإنسان لا يزداد عمره و سِنّه بل ينقص ويدنو ويقترب من مرحلة الضعف والوهن فإن لم يَسعد هذا المغترب بسعادة الفُتوّة وفرح اللّحظة وهو في الاغتراب والاستلاب، فلا داعي أن يؤجل هذه السعادة إلى وطنه أو لربما الشقاوة التي سيذوقها وهو ينتقل من مشفى إلى آخر بحثا عن العلاج والشفاء من الأمراض التي ظلت تركن في ركنٍ ركين من جسده، تنتظر وتتربّص وصوله إلى أرذل العمر ثم تنشط هذه الأسقام في جسمه مثل براكين كانت خامدة مذ زمن غابر.

لكن ما يجعل المغترب بين سندان الغربة وإسفين الوطن هو الخوف من المستقبل والمجهول الذي يبقى مَكنوناً ومضمراً بالنسبة إليه، فيعيش دون اطمئنان وسكينة بالرغم من الأمان الذي يقّدمه بلد الاغتراب، فمن الاستحالة بمكان أن يحصل عليه وهو يتنفس هواء وطنه العليل، حيث يبقى محتار ومُرتاب غير مستقر على حال، تؤرقه إلى حد ما المقولة التي تقول "خبّي قرشْك الأبيض ليومك الأسود"، كأن هذا اليوم الحالك ينتظر المغترب أن يخبو حتى يستطيع الزمان الغدّار أن يستلّ ما جمعه من مالٍ لَبُد خلال أيامه التي قضاها في تطمين مستقبله.

حكوا لنا في المدارس حكاية النملة التي كانت تعمل صيفاً بكدّ دؤوب لكي تنعم بشتاء ٍ رغيد، في حين أن الصرّار كان لا يكترث للغد حتى كاد أن يلقى حتفه بظِلفه من شَصوِ الجوع، وهذه الحكاية حقيقة لم تُعلمنا شيئا سوى الخوف من الغد والمستقبل الذي سيمرّ على كل حال، حتى صار الجميع لا ينظر إلى إسعاد يومه، بقدر ما يتطلّع نحو الغد البعيد الذي عسى أن يُدرِكه. 

مهما يكن من أمر، فالسعادة من التهوّر والخطأ أن تبقى في دكّة الاحتياط والتأجيل، فعلى المغترب التعجيل والإسراع بها قبل أن تَشغله الدواهي التي لا تأتي بسابق إنذارٍ أو وعد، وأن يعيش باعتدال لا ضرر ولا ضرار كما يتفضل الحديث الشريف بالقول، فمن الأغلاط الفادحة التي يقترفها بعض المغتربين، التقتير والتضييق على أنفسهم كأن المال الذي يكسبونه لا يمكن أن تَقربَه أياديهم لأنه رصيدٌ متاح فقط للتحويل إلى الحساب البنكي بالبلاد، ولا يرغبون في إنفاق سنتٍ واحد، سوى على الأكل والشرب والإيجار وفواتير الماء والكهرباء، أمّا دون ذلك فيعتبر خطاً أحمرا، إذا أقربوه فهم على ناصية الخسران المبين على ما يعتقدون، كأنهم يُرجئون كل شيء، فحتى عيادة الطبيب يؤجلون الذهاب إليها حتى عودتهم إلى الوطن الأم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.