شعار قسم مدونات

رِهان سلمية الحراك الجزائري بين الشعب والنظام

blogs الجزائر

انقضت الجمعة الخامسة من جمعات الحراك الشعبي الجزائري ومازال الرهان على استمرار سلميته قائما بين الشعب والنظام. لقد أدهش الشعب الجزائري العالم وهو يقود مسيراته بمئات الآلاف بل الملايين من البشر بأسلوب سلمي حضاري واعي أعطى البشرية دروسا في كيف تغضب مبتسما.

 

لم يكن يستوعب العقل الجزائري الذي عايش سنوات الدم في التسعينات قدرة التحرر وانعدام الخوف عندما يتلاحمان مع الطموح الجزائري وهو يقصد تغيير النظام الذي قاد البلاد إلى الخلف بنظام يؤمِّل منه أن يرفع الجزائر لتحتل مكانتها في مصاف القادة في العالم. إنه الإنسان الجزائري وهو يُقارَن بجاره الفرنسي من أصحاب السترات الصفراء ليعطيه درسا في كيف تقوم في وجه النظام بوعي وسلمية وتحضر.

 

لقد انفجر في 22 فبراير 2019 بركانُ غضبٍ امتزجت فيه الأزمة بالمحنة بالمعاناة بالألم، غضبٌ تلخصت فيه معاناة عقود طويلة من الحكم الذي كان من مخرجاته آلاف الشباب الهارب من الموت إلى الموت على قوارب الموت، هجرة آلاف من الأطباء والمهندسين والمفكرين من كفاءات الجزائر إلى الضفة الأخرى أين الإنسان يعامل كإنسان لا بمن وراءه أو ما في جيبه. إن التجربة التي عايشها الشعب الجزائري في بلده والتي خَبِرَها عن جيرانه كذلك الوعي الذي اتسم به شبابه، كلها عوامل جعلت من صاحب الحق المهضوم يبتسم في وجه ظالمه في رسالة مفادها أنْ قد فهمنا اللعبة ولن تُكرَّر عندنا، مدركًا أن العنف يخدم النظام لا صاحب الحق في القضية.

 

لقد بكى شاب مراهق لا يتعدى عمره 15 سنة مجيبا رئيس الحكومة المُقال أحمد أويحيى قائلا: -يا أويحيى الجزائر ماشي سوريا-، في موقف يُلخِّص مدى وعي الشعب الجزائري والشباب الذي لم يشهد العشرية السوداء بضرورة عدم تكرير سيناريو سوريا في الجزائر. لقد أقام الشعب الجزائري الحجة على النظام القائم المُنهار حيث أظهر للعالم أجمع أن العنف لم ولن يدخل قاموسَ تعاملاته في مسيراته المسطرة على مساره نحو التحرر، وأن أي ممارسات فيها من العنف ولو القليل فإن الشعب منها براء. ولقد رأينا في المسيرات لافتات تحمل قول الله تعالى: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) 28 سورة المائدة.

   

  

ودون بخس لصاحب الحق في حقه فإن النجاح والإنجاز الوحيد الذي يُحسَب للنظام الجزائري الحالي هو قدرته على توحيد ملايين الجزائريين على كلمة سواء –ارحل-، هذا النجاح الذي كان أثره عائدا بالسلب عليه فزعزعه عن عرشه وغربل كيانه وبيَّن من صَدَقَ بوتفليقة بمن خانه. لقد دخل النظام الجزائري المحتضر مرحلة من التخبط والاضطراب والتفكك تبشِّر بنهايته وقرب ساعة رحيله. في هذه المرحلة التاريخية الحرجة من حاضر الجزائر يظهر التساؤل البديهي المنطقي: ماذا بعد السلمية وماذا لو لم يستجب النظام لمطالب الشعب المشروعة؟

 

لقد أدرك الشعب الجزائري بعد إلغاء بوتفليقة أو من يحكم بالوكالة لترشحه للانتخابات مدى فاعلية حراكه السلمي وكيف كان له الأثر في تطوير مطالب الشعب لتتسع إلى المطالبة بتغيير النظام القائم من جذوره. لقد أدرك الشعب بعد انتصاره في جولته الأولى مع النظام أن سلمية الحراك هي السلاح الفعَّال الذي به غيّر قرارات مصيرية بالداخل وأكسبه تعاطفا واحتراما وتقديرا بالخارج. لكن الرهان على سلمية الحراك بين الشعب والنظام هو المحدِّد الأكبر لمستقبل معركة الوطنية ضد المصالح الشخصية. إنَّ لعبَ النظام على عامل الوقت يُعتبر من أكبر المخاطر التي قد تؤثر على سلمية الحراك. كما أن فوز الشعب الجزائري باستكمال سلمية الحراك وعدم تسلل العنف إليه هو التحدي المرحلي القادم، لأن تخلي النظام عن الحكم وهو الذي تعفَّن بفساده فيه لصعبٌ عندنا محالٌ عندهم.

 

كما أن سقوط بوتفليقة ونظامه في حال سقط سيأتي بسلسلة متهاوية من الفاسدين المفسدين الذي عاثوا وعاشوا في الجزائر وكأنها ملك لهم، هم السادة والشعب عبيد!؟ إن تغيير النظام المحتضر اليوم يستلزم سقوط مصالح مسؤولين في كل قطاعات ومؤسسات الدولة، ما يزيد من تمسكهم بالحكم ووقوفهم في وجه الملايين من الجزائريين، بل قد يذهب بهم الأمر بعيدا إلى طرح سيناريو العنف في سبيل بقاء مصالحهم، وهذا هو السيناريو الذي عاشه الشعب السوري في تجربته مع نظامه.

 

إن النظر في عمق التجربة السورية يستوجب البحث والتركيز على مصادر العنف من أين أتت ومن غذَّاها حتى أوصلت الشام إلى ما هو عليه!؟ لأن النظام السوري عندما لم يستمع لشعبه الذي انطلق في مسيراته بالورود طالبا منه حقوقه المشروعة هو المسؤول بالدرجة الأولى عن الدمار الحالي الذي يُبيد سوريا. فقد لعب النظام السوري على الوقت كما يلعب النظام الجزائري اليوم، لكن التباين بين التجربتين يُظهره الرقم الصعب في معادلة التغيير في العالم الثالث وهو المؤسسة العسكرية. لأن التجربة الجزائرية في مرحلتها الحالية تختلف عن سوريا حيث أن النظام في الشام كان يحوي المؤسسة العسكرية التي استعملت القوة ضد المتظاهرين. في حين أن الجيش في الجزائر أعلن وبوضوح تام على لسان قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح حياده عن الأزمة وحمايته للشعب ما تمسك الأخير بسلميته.

 

لقد أحرج الشعب الجزائري بسلميته والجيش الوطني بوقوفه في صف الشعب نظاما راهن على سلمية الحراك الشعبي

بهذه القاعدة العسكرية في حماية الشعب عندما تفرضُ وجودها على معركة التغيير في الجزائر يقع النظام في موقف حرجٍ ويظهر مدى تأثير العسكر على الرهان القائم بين الشعب والنظام حول مدى تمسك الشعب الجزائري بسلوكه السلمي في مسيراته ومن المسؤول عن العنف في حال تحقق سيناريو الانزلاق لا قدر الله.

 

لقد اختلفت آراء المحللين والمتابعين للوضع الجزائري حول موقف الجيش من حراك الشعب. خاصة وأن للجزائر تجربة مع المؤسسة العسكرية في العقد الأخير من القرن الماضي عندما تدخلت في السياسة وأوقفت المسار الانتخابي وفرضت موقفها على الساسة والسياسة. بل يعود تاريخ تدخلات المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية للبلاد منذ الاستقلال سنة 1962. من المحللين من تعامل مع موقف قيادة الجيش من الحراك على أنه استعطاف للشعب ورغبة في طرح اسم الفريق أحمد قايد صالح كبديل لبوتفليقة وسيسي الجزائر.

 

ومن الدارسين للوضع الجزائري الحالي من رأى في موقف الجيش من الحراك ردا على أجنحة أخرى متصارعة في النظام وأن الفريق قايد صالح من مصلحته سقوط النظام الحالي. لكنَّ معظم الشعب الجزائري بصيحاته في الميادين -الجيش والشعب خاوة خاوة-يُظهر فرضيةً قد تكون هي الغالبة، وهي أن الجيش من الشعب وبالشعب وأن ضباطا كبارا على رأسهم قائد الأركان قايد صالح بدأوا حملة تطهير في الجيش الجزائري والتأسيس لمؤسسة مستقلة هدفها الأكبر استكمال الاستقلال عن فرنسا.

 

إن الفرضية الثالثة في حال تحققها تعتبر المسلك الآمن للجزائر وشعبها. فتلاحم الشعب بالجيش يستلزم طوفانا جارفا يُطهِّر البلاد من كل عمالة وخيانة. إن عمق القراءة ودقة التحليل في خطابات قائد الأركان من بداية المسيرات يُظهر أن تحولا كبيرا حدث ويحدث في مؤسسة الجيش. تحولٌ على مستوى المواقف كان نتيجة لتحولٍ على مستوى القيادات. كما إن فوز الشعب بتلاحم الجيش به هو السبيل لفوزه بالرهان القائم بينه وبين النظام حول سلمية الحراك. فالسلمية سلاح الشعب وأكبر مبرر للجيش في حمايته لشعبه.

 

إن الشعب بوعيه والجيش بوطنيته هما الرقمان الصعبان في معادلة التغيير الجزائرية. فالوعي الذي قاد الشعب الجزائري إلى فهم الواقع المحيط والتجارب الفائتة هو الذي فرض السلمية في ميادين التظاهر، كما أن وطنية الجيش وإدراكه للمسؤولية الكبيرة التي وقعت على عاتقه بالوقوف في صف الشعب هما المخلصان للجزائر في مرحلتها العصيبة هاته. إن مستقبل الجزائر في هذه المرحلة من الحراك مرتبط بسلمية المسيرات ووطنية الجيش. كما أن المؤسسة العسكرية الجزائرية وبناءً على التطورات التي شهدتها في المرحلة الأخيرة لهي الضامن الأكبر لفوز الشعب على النظام في استكمال سلمية المظاهرات.

 

لقد أحرج الشعب الجزائري بسلميته والجيش الوطني بوقوفه في صف الشعب نظاما راهن على سلمية الحراك الشعبي. كما أن اللعب على عامل الوقت وعدم الاستجابة لمطالب الشعب هو المُهدِّد الخطير لمستقبل سلمية الحراك. لأن نظاما توغَّل بفساده في مؤسسات الدولة لن يتردد في طرح سيناريو العنف إذا أصر الشعب على مطالبه. في تلك المرحلة التي لا نرجو قدومها سيكون الاختبار الأكبر للجيش والشعب معا، عندها ستشهد الأجيال القادمة أن شعبا قام بسلمية ورقي في وجه نظام قاد البلاد إلى الخلف لعقود من الزمن فتمسك الشعب بشرعيته وسلميته وتمسك النظام بكرسيه ومصالحه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.