شعار قسم مدونات

مِعّمارِيةُ التفكيك.. هكذا اقتبست زها حديد فلسفة دريدا

BLOGS زها حديد

"هناك 360 درجة، لماذا علينا أن نتمسك بواحدة فقط؟"
– زها حديد

لابد أن يتملكك انطباع الغرابة حين تقف أمام مبنى من المباني التي صممتها المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، تضعك مباني زها بأسطحها الحادة ومنحنياتها المتطرفة في عالم فضائي يبدو للوهلة الأولى أنه منبثق من فيلم هوليود حول الحياة في الفضاء أو عالم المستقبل. متحف الفن الحديث في مدينة سنسياتي بالولايات المتحدة، جسر الشيخ زايد في أبو ظبي، مركز حيدر علييف في أذربيجان، وغيرها الكثير من التصاميم والتي تصل لـ950 مشروعا تعطي انطباعا أن مصممتهم فنانة اختارت طريق الهندسة المعمارية لعرض لوحاتها، ورغم رحيلها عن العالم سنة 2016 إلا أنها تركت معالمها كإرث عمراني عالمي بلمسة معمارية خاصة، تركت زها بذلك بصمتها في 44 بلدا وحفرت اسمها في قلوب كل عاشق للعمارة حول العالم.

ولدت زها سنة 1950 في بغداد، والدها محمد حديد وزير المالية العراقي السابق، درست الهندسة في الجامعة الأمريكية ببيروت ودفعها شغفها لمواصلة الدراسة بكلية الجمعية المعمارية بلندن وتلتحق بالدراسة على يد اثنين من أفضل المعماريين في العالم: ريمينت كولهاس وإيليا زينيليس، واللذين كانا أول من تلقى شكرها لهما في خطابها بعد التتويج بأرفع جائزة في الهندسة المعمارية "ميدالية بريتزكر".

تمردت زها خلال عملها في السبعينات على الأفكار المعمارية السائدة في المجتمع الأوروبي، انتهاجها لمنهج غير مألوف أثار حفيظة مجتمع المعمار آنذاك، بسبب اعتمادها على التنافي بين الخطوط والانسيابية في الوقت الذي كان فيه النمط العالمي يعتمد على تكرار الخطوط وحدتها وبذلك تحول اسمها لمدرسة معمارية بحد ذاتها لقبت بالتصميم الحديدي hadidian.

زها حديد وجيل ما بعد الحداثة
كلما ارتبط اسم زها بأحد الأساليب المعمارية إلا وخرجت منه بتصميم جديد يصعب تأطيره يتمرد على التصميمات الكلاسيكية بل يتمرد حتى على تصميماتها السابقة!

انبثقت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية عدة تيارات فكرية تلقب بين الأكاديميين بجيل ما بعد الحداثة، ومن أهم هذه التيارات وأكثرها انتشارا التيار الناتج عن الثورة الصناعية وحقوق العمال والمجتمع الانتاجي، أما التيار الثاني فقد تأثر بالتجريدية الشكلية والفكرية والعلاقة بين الجسد والفن، زها انتمت للتيار الثاني من الحداثة وتأثرت باللوحات  التفكيكية التجريدية للفنان الروسي  ماليفيتش، حتى أنها قد استخدمت أعماله كقاعدة لمشروع تخرجها تحت إشراف أستاذها كولهاس، وفي ذات الوقت وغير بعيد عن لندن وبالضبط في باريس بدأ اتجاه فلسفي جديد يظهر على يد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، هذا الاتجاه الفلسفي التحليلي والذي أُطلق عليه "التفكيكية" يهتم بتفكيك النص الأدبي لكشف المعاني الكامنة فيه، فكان مبدأ التفكيك مؤثرا حاسما اقتسبته زها في أعمالها واعادت به تعريف العناصر البنائية لابتكار فراغات غير مألوفة معماريا وبصريا.

ما هي فلسفة التفكيك؟

لفهم أدق للنهج الذي عملت به زها حديد في تصميماتها، لابد من فهم فلسفة التفكيك التي ارتبطت بالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، التفكيكية هي محاولة لاستخراج المعاني الباطنية للنصوص والتي قد لا يقصدها مؤلف النص اصلا، تحتوي النصوص على معاني أكثر مما قد يمكن استيعابه عبر القراءة البديهية للكلمات والمفاهيم، بشكل مبسط.. التفكيكية محاولة لقراءة ما بين السطور والتي لا يعلم مؤلفها أنها موجودة، ويقول جاك دريدا حول ذلك: "يهدف التفكيك إلى إيجاد الصدع الذي يمكن من خلاله رؤية بصيص غير مسمى أبعد من الفتحة التي يمكن رؤيتها".

طبعا مفهوم التفكيكية شائك ومحير كغالب نصوص جاك دريدا، ويصعب شرحه في مقال واحد إلا أنه وبشكل مبسط فالتفكيكية تقول إن كل بنية سواء كانت أدبية أو نفسية أو اجتماعية.. تحافظ على معناها عبر استبعاد معنى آخر، أي عندما أقول كلمة "عدالة" فذلك يعني أنني استبعدت لا محالة كلمة "الظلم" بالتالي تصبح هذه الكلمات قمعية، فكل ما يتم طمسه حسب جاك دريدا يعود مرة أخرى لزعزعة البناء مهما بدا البناء آمنا.

التفكيكية والعمران وزها حديد

بعد أن تعرفنا بشكل ظاهري على مفهوم التفكيكية، ستتساءلون عن علاقة الكلمات بالمعمار وزها حديد.. التفكيكية حين تبلورت في السبعينات اجتاحت عدة مجالات خارج الفلسفة فوصلت الأدب والفن بما فيهم فن العمارة، واستطاع رواد الهندسة المعمارية التفكيكية أن يثوروا على المفاهيم الكلاسيكية للبناء الكلاسيكي، ذكرنا سابقا أن التفكيكية هي القمع والتكسير للأشياء الكلاسيكية.. إذن فالتفكيكية المعمارية هي تفكيك البنايات لقطع وتمرد على القواعد المتعارف عليها.

يقول المعماري تشارلز جنكس بأن العمارة التفكيكية هي عمارة المفاجآت غير المتوقعة، فهي تسعى للتدمير من أجل إعادة البناء وكلما ارتبط اسم زها بأحد الأساليب المعمارية إلا وخرجت منه بتصميم جديد يصعب تأطيره يتمرد على التصميمات الكلاسيكية بل يتمرد حتى على تصميماتها السابقة!

وصفتها النيويورك تايمز بأنها ملكة المنعطفات التي حررت الهندسة المعمارية وأعطتها هوية جديدة معبرة بالكامل، ففي عالم زها تذوب الفوارق بين الأفقي والعمودي والأرض والبناء والمنحنى والمستقيم فاستطاعت بذلك إذابة الفارق بين تصميم العمارة والأزياء والسيارات، ونجحت في أن تتعدى الحواجز والعوائق العنصرية لتحقق مالم يحققه إلا القليل من المعمارين في التاريخ وتؤرخ اسمها كامرأة في مهنة اكتسحها الذكور لسنين وكعربية في عالم يعاني فيه العرب من التفكك الاكثر سوءا من تفكيكية دريدا..

في الختام، قد لا نبالغ إذا وصفنا المهندس المعماري بأنه فيلسوف بروح فنان، فالتصميم المعماري أكثر تعقيدا من مجرد تخطيطات على ورق بل هو ملحمة شعرية وسيمفونية موسيقية تحتاج ذوقا فنيا وثقافيا عاليا ولنا في العصامية زها حديد خير مثال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.