شعار قسم مدونات

اللغة العربية.. صلاحيتها وفعاليتها كلغة للفلسفة وللعلوم كافة

blogs اللغة العربية

كل العرب الذين يتناولون التراث العربي الإسلامي بالانتقاص والازدراء تحت مسمّى "النقد"، كلهم يجانبون الصواب في مقالتهم رغم بذاخة كلامهم وانطوائه على جاذبية خاصة. وفي هذا تستوي كل التيارات الفكرية التي غَزَتْ العرب في عقر دارهم، في محاولةٍ، متعمدة أو غير متعمدة، لتدمير ثقة العرب بأنفسهم واعتزازهم بموروثهم الثقافي والحضاري.

 

إن كان الغرب برمّته يعترف بابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجة وابن عربي والغزالي والرازي والكندي، فلماذا هؤلاء "النقّاد" يصرون على أن يبخسوا هؤلاء الفلاسفة العظام أشياءهم؟ لو لم تكن أعمالهم جديرة بالبقاء، للفظتها الطبيعة ولصارت نسيا منسيا. جميلٌ الافتتان بالفلسفة الغربية، ولكن الأجمل لو أن المنتقصين من التراث العربي الإسلامي يغوصوا في الفلسفة الإسلامية. وسوف آتي هؤلاء ببرهان يدحض كل ادّعاءاتهم وتحاملهم على تراثنا. سوف أسألهم: من هو أعظم فيلسوف يهودي؟ سوف يقولون لي إنه الهولندي باروخ سبينوزا لأنه الأقرب إلى زماننا. لكن اليهود يعتبرون موسى بن ميمون عظيم عظماء فلاسفتهم ومفكريهم عبر العصور. وموسى بن ميمون هذا كان عيال في فلسفته وفكره على ابن رشد وفلاسفة الإسلام. وكان ابن الأندلس المسلمة وكتب أعماله الفلسفية باللغة العربية. 

 

يجب أن يكون للعرب أسوة بعدوّهم التاريخي إسرائيل. فهذه الدولة العنصرية أدركت باكرًا أن عامل اللغة حاسمٌ في الوحدة القومية، فعمل مؤسسوها على إحياء اللغة العبرية المندثرة من التداول الشعبي

كل الأمم تمر بعصور انحطاط. الإغريق منذ ألفي سنة وحتى اليوم لم ينجبوا فيلسوفا واحدا ذي شأن عظيم. فلم يأتِ إلى الوجود سقراط آخر ولا أفلاطون ولا أرسطو. والعرب اليوم في عصر انحطاط وظلمات. ولكن العربية أثبتت أنها تستطيع الإيفاء بكل الأغراض بفحولة عزّ نظيرها. من يدرس اللغة العربية يعلم تماما عمقها واتّساعها وإحاطتها بكافّة المعاني وبمتطلّبات التعبير الدقيق. 

 

ولو أخذنا الطب كنموذج، لوجدنا أن الجسد لا يتعافى من المرض إلا بمناعته الذاتية. أي تدخلات عقّارية أو جراحية أو علاجية أخرى تصبّ، في النهاية، في تقوية ودعم جهاز المناعة، فإن أفلس جهاز المناعة وعجز عن القيام بدوره، فلا تنفع أي تدخلات علاجية، لو مهما بلغت من الفعالية والنجاعة. وفي الحضارة، لا تنهض أمة من الأمم إلا بمخزونها التراثي الذي هو بمثابة جهاز المناعة في جسد الأنسان. وأي تدخلات حضارية خارجية يجب أن تصبّ في دعم وتقوية ومعافاة هذا المخزون التراثي. 

 

لا يمكن لأي جسد أن يحارب الأمراض بجهاز مناعة غريب عنه، تابع لجسد آخر. وكذلك لا يمكن لأي أمة من الأمم أن تأخذ دورها بين الأمم بالمخزون التراثي التابع لأمة أخرى.  داء العرب منهم، ودواؤهم منهم. وأي دواء من الخارج هو السمّ الذعاف. نعم لتلاقح الحضارات. لا للغزو الثقافي وللهيمنة الفكرية والوصاية العلمية والأدبية. تراثنا عظيم، فلنعُد إليه بعقلنا الناقد وقلبنا المتفتح. 

 

لذلك فإننا نؤيّد، وبعنف وحماس شديديْن، أن تقوم جميع الدُّوَل العربية بمبادرات جادّة ودؤوبة لتعزيز دور ومكانة اللسان العربي لدى أبنائه، ولحمايته من الغزو الثقافي. وهذا الأمر يمرّ عبر تعريب جميع العلوم في كافّة المجالات، وعلى تشجيع نشاط الترجمة العربية من اللغات الأجنبية وإليها. وهي كلها أمور تتطلب تخطيطًا تقوم به مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى دعم ماديٍّ كبير وإنفاقٍ سخيٍّ. 

 

فنهضة العرب المرتجاة ورقيّهم المنشود يبدآن، بلا ريب، عبر إيلاء لسان الضاد ما يستحق من اهتمام واحتفاء وعناية، وعبر تنمية الشعور بالاعتزاز في إتقان العربية بالشكل الصحيح والسعي الدائم للحفاظ على مكانتها في المجتمعات العربية كافّة. ولذلك لا بدّ من إعداد كفاءات بشرية تحمل هذه الأمانة وتؤمن برسالتها في رفعة أمتها ونهضتها. 

 

ويجب أن يكون للعرب أسوة بعدوّهم التاريخي إسرائيل. فهذه الدولة العنصرية أدركت باكرًا أن عامل اللغة حاسمٌ في الوحدة القومية، فعمل مؤسسوها على إحياء اللغة العبرية المندثرة من التداول الشعبي، والتي كانت محصورة بالأحبار وبالحاخامات. أما اليوم، فإن العبرية هي اللغة الرسمية لدولة إسرائيل بالإضافة الى كونها لغة التخاطب بين الموطنين. الإسرائيليون أحيوا العبرية، التي كانت لغة ميتة، من الرماد، فلماذا يصرّ العرب على الحطّ من شأن لغتهم وتحقيرها والتنفير منها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.