شعار قسم مدونات

عباس العقاد.. عملاق الأدب العربي الذي وقف بوجه النازية!

blogs عباس العقاد

سأتحدّثُ عن العملاق الموسوعي، سأتحدّث عن الحالةِ الواسعةِ المدارك المعرفيّة، سأتحدّث عن عبّاس محمود العقّاد، وما أدراكَ ما العقّاد؟ وأظنُّ أنّه من الإجحاف أن أفرِدَ مقالاً واحداً في حقِّ إنسانٍ كتبَ تقريباً في كلِّ شيء، ولكنّها مُحاولة متواضعة لتبيان جوانب لامعة في الرجل، وأنا واحدٌ من كُثرٍ كتبوا عنه، فتعالوا نرى من هوَ العقّاد صاحب العبقريّات من خلالِ كُتُبِه؟ فنحن لم نعرف الرجل معرفةً حقّة كسيكولوجية تُحيط به إلّا الشيءَ اليسير.

عبّاس محمود العقّاد المولود في أسوان سنة 1889 منْ أمٍّ ذات أصول كرديّة، وقدْ تحدّثَ العقّاد عن صلابته التي أخذها عن والدته، فهي صاحبةُ هذا الأثرِ الذي صاحبَ العقّاد لحينِ وفاته. العقّاد من عجائبِ القرن المنصرم، ولمْ أعلمْ رجلاً كتبَ وقرأ كما هذا الرجل، ويُقال أنّه تعدّى حاجز السبعين ألف كتاب كقراءة! وكتبَ ما يُقارب المئة كتاب في مختلفِ المجالات وخمسةَ عشرَ ألف مقال في الفترة ما بين 1916-1958.

كانت أولى كُتُبِه بعنوان "ساعات بين الكتب" عرضَ فيها العقّاد تصوراته وقراءاته لأنواع مختلفة من الفنون، ولمدارس عدّة في الفلسفة، الشعر، الفن، والحضارات. تلمسُ من خلالِ هذا الكتاب موسوعيّته من جهة، ووجهة نظره من جهة أخرى، فعدا عن البحور التي تراها، سترى رجلاً صاحبَ حُجَّة يُساجل ويُعارك فيما يقرأ، وقدْ كانَ هذا في حياته مع كُتّابِ عصره أيضاً، لهذا السبب أيضاً لمْ يتزوج، فقدْ قال: أنا رجلٌ ذو معاركَ كثيرة! فكيفَ لي أنْ أُقحِمَ أحداً داخلَ هذه الحياة وأظلمه فيها! وهذا سيكون عينُ الظُلم.

من كتبِه المشهورةِ أيضاً "هتلر في الميزان" نقدَ فيه النازيّة وعنصريّتها اتجاه أي عرقٍ آخر، والسبب وراءَ ذلك هو ميل المصريين حينذاك إلى هتلر والنازيّة كيْ يُخلّصَهم من الاحتلال الإنجليزي، مما دفعَ العقّاد لنقده وبيان طامّاته، وشرعَ ينشرُ وعياً بين صفوف الشعب المصري، ويكشف الغطاء عن هتلر والنازيّة، فإنْ انتصروا سيكملون مسيرتهم نحو العرب، لتبدأ بعدها عمليّات التصفية لهم، وهذه من الأمور التي غفلَ عنها الكثير في ذلك الوقت، ولعلَّ كُرهُ هتلر لليهود عزّزَ من هذا الميل له، ولكنَّ البشرية تناست أمراً مهمّاً جدّاً، وهو أنَّ النازية قامتْ على العنصرية والقتل لأي طرف خارج دائرة العرق الآري! وقواعدها تعود للفيلسوف الألماني نيتشه، والتي تتلخّص فلسفته في الإنسان المتفوّق والتخلّص من الضعفاء، ومنَ الأفواه التي تأكل ولا تُنتج –كما وصفها المسيري-

منْ ألمع كتبِ العقّاد هي العبقريّات، فقدْ ابتدأ هذه السلسة بعبقريّة محمد –صلّى الله عليه وسلّم- ومنْ ثمَّ عبقريّة عمر –رضي الله عنه- وعبقريّة الصدّيق والإمام علي –كرّم الله وجهه- وقدْ كتبَ أيضاً عن عبقريّة المسيح وخليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، وقدْ أخذَ العقّاد منحىً مختلفاً عن السائد حينذاك، ولمْ يعرض ما اعتادَ عليه النّاس في وقتها، وخصوصاُ أنَّ الأمر ارتبط بالرسول عليه السلام وصحبه ارتباطاً مباشراً، هوجمَ العقّاد من شيوخ الأزهر على إثرِ هذه الكتب، وهذا حال أيّ كاتبٍ يخرج عن النص الديني السائد في وقته، معْ أنَّ سرد العقّاد في هذه الكتب كانَ مُنصفاً، فهو لمْ يتطرّق إلى نبوة رسولنا الكريم –صلّى الله عليه وسلّم- فقدْ تحدّث عنْ محمد وعبقريّته كشخصيّة مستقلّة بعيداً عن اصطفاءه ونبوّته، وكانَ الحال مشابهاً في السرد عندما تحدّث عن صحبه أبي بكرٍ، عمرَ، وعليّ.

من المراحل المفصليّة في حياة العقّاد هي علاقته بحزبِ الوفد، فقدْ وصفَ سعد زغلول –مُؤسّس حزب الوفد- العقّاد بجبّار المنطق، وحظي العقّاد بمكانة عالية في حزب الوفد إثر الإعجاب الشديد لسعد زغلول به

أشعرُ بالضياع أثناء كتابتي لهذا المقال، ولا أعلمُ على وجهِ الدقّة من أينَ أبدأ؟ وإلى أين أنتهي؟ فتعدّد الموضوعات التي جمعها العقّاد في مسيرته أشبهُ بعددٍ غير معرّف، وإنْ أردنا الحديث عن مسألة بعينها فقط، فسيعترينا التشتتُ أيضاً، فهذه الموسوعيّة لمْ تقتصر على عدد المسائل التي طرحها، وإنّما تنتقل إلى العمق في كلِّ مسألةٍ على حدا! وقدْ ذكرَ أنيس منصور في كتابه الشهير "في صالون العقّاد كانتْ لنا أيّام" أنَّ العقّاد كانَ يملك قدرة غير مفهومة أحياناً، فكلّما طرحنا موضوعاً أمامه نراه يتكلّم فيه وبإسهاب وعمق وتفصيل، ويأخذ الموضوع بآحاده ويناقش إشكالاته، ومن تكلّم فيه، وأراءهم أيضاً، وهذا يدلّ على أنَّ العقّاد موسوعي بالمعنى الحرفي للكلمة، ولمْ يكنْ بنك معلوماتي فقط، ولمْ يكنْ ضحيّة الذئب الهيغلي الذي تكلّم عنه المسيري، ولعلّه من المهم أنْ يتمّ توضيح هذا الجانب منه، فالعقّاد صاحب تصوّرات وصاحب رؤية نقدية، فهو يقرأ ويبني نماذج تفسيرية ويفكّك ما يقرأ ولا يجمع هذه المعلومات ويُكدسها فقط.

أحدْ الأسس التي قالها العقّاد وجعلْتُها نُصْبَ عيناي على طولِ الخطّ هي الآتي: "لا تقرأْ ما ينفعك، وإنّما انتفعْ بما تقرأ"، والكثير من النُقّاد يعترضون على هذه الجُملة، ويشيرون إلى القراءة الكثيرة دائماً على أنّها مضيعة للوقت فيما لا ينفع! ولكنّني أراها على النقيض من ذلكَ تماماً، وهذا يجعلْ من الإنسان يملكُ تحكّماً داخليّاً ومعياراً نقديّاً لداخله الذي يقرأ على الدوام، وبهذا الشكل تتسع الدائرة لدى هذا الشخص كلّما قرأ، وتتسع معايير أحكامه أيضاً وينضج بحكمة دون توقّف، فلا فضَّ فاه العقّاد على هذا الكلام.

من المراحل المفصليّة في حياة العقّاد هي علاقته بحزبِ الوفد، فقدْ وصفَ سعد زغلول –مُؤسّس حزب الوفد- العقّاد بجبّار المنطق، وحظي العقّاد بمكانة عالية في حزب الوفد إثر الإعجاب الشديد لسعد زغلول به، وكانَ المُدافع عن الحزب من خلال مقالاته، ولكنْ لمْ يلبثْ على هذا الحال، فبعدْ وفاة سعد زغلول، اصطدم العقّاد مع قيادات الحزب، وعلى رأسهم مصطفى النحّاس، وتقول الروايات أنَّ انفصاله عن الحزب بعدَ ذلك أصابه بأزمة نفسيّة شديدة، حاولَ فيها الانتحار! ولكنّه استعادَ عافيته بعدَ نشر كتابه عن سعد زغلول مادحاً حزب الوفد ومُوضّحاً أثره عليه.

كتبَ عن الله وأسماه الفلسفة القرآنية، وعن أبي العلاء المعرّي، وكان تحتَ عنوان "رجعة أبي العلاء" وهو كتاب غاية في الروعة لشخصيّة مثيرة للجدل كأبي العلاء، كانتْ له رواية "سارة" ويُقال أنّها مجموعة مقالات تتحدّث عن مواقف في الحبّ، جُمعتْ في رواية "سارة"، ابن الرومي، ابن سينا، غاندي، وفرنسيس بيكون، مرةً يكتب في الفلسفة، وتارةً يكتبُ في الأدب، ويقفز بعدها ليكون السياسي الدارس المتعمّق، سُمّيَ بعملاقِ الأدبِ العربي، ولكنّهم نسوا أنْ ينعتوه بالفيلسوف الأديب والسياسي الشامل! وصراحةً لا أراها مبالغة، وإنّما هذا الإنصاف بعينه في حقِّ استثنائيٍّ كالعقّاد.

يقول العقّاد: "فكّرْ في واجبك، كما تُفكّر في حقّكْ، واعملْ طلباً للإتقان، لا طلباً للشهرةِ والجزاء، ولا تنتظرْ من النّاس أكثرَ مما يحقُّ للنّاس أنْ ينتظروه منك"، هوجمَ العقّاد كثيراً في شخصيّته، وأخذَ القيل والقال في الحديث عن كبريائه وعُجُبِه بنفسه، ولا أعلمْ من أينَ أتوا بهذا؟ ما قاله في بداية الفقرة كانَ صوتياً ومرئيّاً وأحد النوادر التي سُجلت له، وعندَ سماعي له، لمْ أجدْ شيئاً من هذا الكبرياء، وحتّى فحوى ما قال لا يدلُّ على هذا في شيء! كانَ معتدّاً بنفسه واثقاً كالجبل، لديه علمٌ غزير يُقارع به من يتشدّق بما لا يعرف! هذا هو العقّاد باختصار، ولعلَّ جهلةُ عصرِه من ألصقوا به تهمة التكبّر والعُجب كردّةِ فعلٍ على منْ كانَ يقفُ لهم بالمرصاد ويقلقهم دونَ كللٍ أو مللْ.

وإنْ تابعنا الحديث في نفسِ المقام، سنرى أنَّ العقّاد كتبَ في هذا وقال في سيرته الذاتية تحت عنوان "أنا" ما كانَ يُخالجه من مشاعر اتجاه ما قيل فيه، فقدْ قالَ –وأختمُ بها-: "وعبّاس العقّاد كما أراه –بالاختصار- هوَ شيءٌ أخر مختلفٌ كلَّ الاختلاف عنِ الشخصِ الذي يراهُ الكثيرون، منَ الأصدقاء أو الأعداء، هوَ شخصٌ أستغربه كلَّ الاستغراب حينَ أسمعهم يصفونه أو يتحدّثون عنه، حتّى ليخطر لي في أكثر الأحيان أنّهم يتحدّثون عنْ إنسانٍ لمْ أعرفه قطّ، ولمْ ألتقِ به مرّةً في مكان.. فأضحكُ بيني وبين نفسي وأقول: ويلٌ للتاريخِ منَ المؤرّخين!"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.