شعار قسم مدونات

من نافذة الطائرة

blogs طائرة

تنطلق من بيتك تشق أرجاء المدينة في طريق قصير أو طويل حتى تصل إلى المطار الذي يموج بالخلق مودِّعين ومودَّعين، ترقد على أرضه طائرات حُدِّدَتْ وجهتها وفق خطط دقيقة ومواعيد مسبقة، تسارع الخطأ لإتمام إجراءات معتادة، تَخِف على النفس أحيانا وتثقل أخرى، تكون في حالة استقبال واستدبار، تستدبر الماضي القريب وتفاصيله إلى ما أنت مقبل عليه وقادم إليه، وبحسب مقصد الرحلة ووجهتها تكون مشاعر الفرحة واللّذة، والبهجة والسرور، والفخر والاعتزاز، أو غير ذلك من مشاعر مؤلمة ينال المرء عليها أجر الصابرين المحتسبين.

  

تستقلّ الطائرة وتأخذ منها مقعدك، تسير بك بسرعة لم تعتدها، وتعلو وتتباعد عن عالم الضجيج والتنافس الشرس إلى حين، وكلما ارتفعتْ تضاءلت المشاهد في ناظريك، وتغيّرت واتّضحت لك أمور كنتَ وكنّا في غفلة عنها.

  

إن كوكب الأرض لا يساوي شيئا أمام معظم كواكب المجموعة الشمسية، والشمس نفسها على عِظمها ضئيلة الحجم بالنسبة لشموس وأقمار أخرى
أهذه هي الدنيا؟

تبدو المدينة من علِ صغيرة وتظل تصغر حتى تبدو أنهارها كخيوط رفيعة، والبيوت والأبنية الشاهقة كأنها لعبة مما يتسلى به الأطفال، ومثلها السيارات الفارهة التي يختال بها من يظن أنه سيخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا، وبعد لحظات تختفي معالم المدينة وما حولها من أنهار وجبال ووديان حتى لا ترى بعدُ شيئا.

 

قلت: هذه حقيقة الدنيا التي ظنّ أهلها أنهم قادرون عليها، حينما نغرق فيها وتستولى على قلوبنا لا نرى حقيقتها ولا نعلم حجمها ولا ننزلها منزلتها التي أنزلها الله تعالى، وحينما نتجافى عنها قليلا نوقن أنها لا تصلح أن تكون غاية ولا تستحق أن يأكل المرء فيها حراما، أو يقاتل عليها لمنصب زائل أو يحمل كرها أو حقدا أو حسدا على أحد من خلق الله. "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون".

  

إن كوكب الأرض لا يساوي شيئا أمام معظم كواكب المجموعة الشمسية، والشمس نفسها على عِظمها ضئيلة الحجم بالنسبة لشموس وأقمار أخرى، لهذا نتذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحذرنا فيها من الاغترار بالدنيا مبيّناً أنها أمام الآخرة لا وزن لها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع" رواه مسلم.

 

جَمال آخِذٌ

ترى من نافذة الطائرة جمال صنع الله الذي أتقن كل شيء، غاباتٍ جميلةً وأنهاراً سخّرها الله لنا وبحاراً واسعة تأسر العين بروعة زرقة مائها، وجبالا جدداً بيضاً وحمراً مختلفاً ألوانها وغرابيب سودا، وجزراً بها بيوت أنيقة ترجو أن تنال حظا من راحة في جنباتها، فإن اقتربتَ من الوصول سبق قلبك قدميك لتلقى الأحبة، وهنا نتذكر أن المؤمن لا تخرج روحه من الدنيا حتى يرى مقعده من الجنة ثم يقول رَبِّ أقم ِالساعة.  يتعجل رؤيا الأحباب، وسكنى الدور والقصور، والفوز بالرضا الأعلى من رب رحيم غفور.

 

القرآن نافذة على الوجود

على ارتفاع كبير ترى مسافات تصل لمئات الكيلو مترات تزدحم بالعمران والآثار، وتبدو الأرض من مسافات أبعد ككرة في الفضاء لا يمسكها إلا الله الحليم الغفور، ومع الارض مثيلات لها تجرى لمستقر لها في مدارات ومجرات، وكل في فلك يسبحون. وعندما نقرأ القرآن العظيم سنرى فيه هذا الكون الفسيح، ومشاهد وقصص أفراد وجماعات وأمم وحضارات وشعوب وقبائل، منهم من آمن ومنهم من كفر، منهم أقوام بَنَت وشيّدت وعمّرت وأصلحت، وإلى الخير قادت، وأخرى أعرضت وأفسدت وأهلكت فبادت.

 

وقد أشار مشايخنا منهم الشيخ محمد الغزالي ود. طه جابر العلواني – رحمهما الله تعالى-  إلى أهمية الجمع بين القراءتين، أن ننظر إلى القرآن أنه كون ناطق وأن نرى الكون قرآنا صامتا. وقد سبقهم أهل المعرفة عندما قالوا: إن أهل الذكر عادوا بالذكر على الفكر، ثم بالفكر على الذكر، فنطقت ألسنتهم بالحكمة. "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ"، هذا ما عَرَض لخاطرنا، ولعل عند القرَّاء الكرام ما هو أجود وأنفع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.