شعار قسم مدونات

تغليف المصطلحات وتزيينها بمسميات جذابة أخطر مما تظنون

BLOGS حوار

تعد المصطلحات مفردات مهمة في أي منظومة فكرية كيفما كانت مرجعيتها، ومن غير المعقول الاستهانة بها وبكيفية توظيفها، الأمر الذي يستدعي إمعان النظر فيها قبل استخدامها، والإحاطة بما يتم ترويجه من مسميات مزينة ومصطلحات مستحدثة ومنتقاة من قبل المفسدين بدقة، وبالخصوص الألفاظ التي تظهر كحق لكن يراد بها باطل، وهذا ما ينذر بوجود خطر ناجم عن الضرر الذي لحق بالبنية الفكرية لمجتمعاتنا، ولا يمكن حجبه مهما ادعت بأن أفرادها تملك فكرا سليما عقديا ومنهجيا.

 

أين تكمن خطورة تغليف المصطلحات وتزيينها بمسميات جذابة؟ يمكن اعتبار هذا التساؤل الشائك بمثابة جوهر المعالجة التحليلية لهذا الموضوع الفكري المتشعب والممتد سلوكيا، والذي ينظر إليه بسطحية تستلزم الرفع من الحاجة إلى تكوين فهم معمق عليه ورؤية واعية مبنية على أسس قويمة، في سبيل إصلاح البنية الفكرية المشوهة بسبب التصورات الخاطئة التي بنيت عليه الأفكار المتعلقة بالمصطلحات السائدة والسلوكيات التي أعقبتها من دون أية دراية بحقيقتها المخبأة عن النظر الفكري بفعل ما تعرضت له من تزييف.

 

تنتشر الكثير من هذه السلوكيات غير السوية التي أعقبت انخداعنا بالمصطلحات المغلفة بمسميات جذابة في مناحي حياتنا المتعددة، بل وصرنا نبصرها واقعا ملموسا ونراها أمام ناظرينا باستمرار

ويقصد بتغليف المصطلحات وتزيينها بمسميات جذابة أن يُعمد إلى تغيير بعض الحقائق المرتبطة بها؛ من خلال تمرير بعض المغالطات التي تمكن من تضليل العوام بتبديل المصطلحات الحقيقية التي تعرف بها الأشياء والأمور، وذلك بوضع أسماء مزيفة لها لكن جاذبيتها تقلب صورة حقيقتها في الأذهان، وتصير بها مطبوعة بطابع تعجب به ذواتنا وتحب سماعه، ولو كانت في أصلها أشياء تحمل أحكاما يعرفها العامة؛ كأن يكون الشارع قد نهى عنها ومقتها وأظهر مضارها، لكن بعد تزيينها تصبح مألوفة فتدنو النفوس منها وتستأنس القلوب بها بل وتميل لها ميلا، وقد تصير درجة النفرة منها شبه معدومة بعد تغليفها وتنميقها.

 

إن تزيين القبيح وتحسين السيء وإظهار الشر في صورة الخير أسلوب إبليسي خطير قائم على المكر والخديعة والكذب، بالتلاعب بالألفاظ لنصرة الباطل وإعلاء منارته وخذلان الحق وطمس أثاره، وعدم الإنتباه والوعي بخطورة هذا الصنيع نظرا لغياب الإدراك التام بعواقبه سيؤدي لا محالة إلى قلب كثير من الحقائق في أذهاننا، فتتغير سلبيا أمور كثيرة في واقعنا بحيث ينقلب المنكر معروفا ويصبح المفسد مصلحا، وهذا ما سيقود إلى فتح أبواب عريضة من الشر المستطير، وفي ظل عدم بذل الجهود الحثيثة لعلاج هذه المعضلة الفكرية التي لها امتداد في تصرفاتنا يزداد أثرها السلبي ويتضاعف ضررها، وتتعقد عمليتي التصحيح الفكري والتعديل السلوكي بحاجتها لجهد جبار دؤوب وعمل علاجي متواصل، لا سيما وما نلاحظه من شيوع كبير لمغالطات خطيرة ساهمت بشكل مهول وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المتنوعة ذات الصيت العالي بنشرها على نطاق واسع بعد قيامها بهذه المهمة الخبيثة.

 

لقد أصبحنا نعيش في زمن منقلب الموازين قلت فيه الرؤية الصائبة، بل وفي بعض الأحيان تكون نادرة لما أصاب بصائر الناس وعقولهم، خصوصا وأننا في عالم يعرف ضبابية فكرية محيرة ويرجع ذلك للوقائع الحياتية المتسارعة التي زادت من حدة عدم التكمن من فهم مجرياته التي يكثر فيها تزيين المصطلحات وتغليفها بمسميات جذابة، فالأسماء صارت تطلق بغير مسماها الحقيقي؛ فالخمور بأنواعها وأشكالها أضحت تسمى مشروبات روحية أو كحولية، والملابس الضيقة أو التي تكشف الجسد أكثر مما تغطيه باتت أزياء وموضات، والسلاسل والقلائد التي يضعها الشباب والتسريحات وقصات الشعر الغريبة وغيرها من التصرفات انزوت تحت مصطلح الحرية الشخصية، ومقاطع الفيديو الماجنة والمسلسلات والأفلام الفاضحة الدنيئة القاتلة للأخلاق الفاضلة والمحرضة على الفواحش كل هذا غدا من الفن، والربا بات مجرد فوائد وعوائد، والزنا تغير مدلوله الفاحش وصار من الأمور التي تم إدخالها فيما يصطلح عليه بلفظ الحب، والموسيقى تم تغليفها بمسمى جذاب ألا وهو غذاء الروح، وترويج الأفكار الهدامة للقيم الإنسانية ولكل ما هو نبيل تم تزيينه فتبدل معناه ليرتبط بحرية التعبير التي تعد من المفردات البراقة، والانسلاخ الديني والتهكم والسخرية من معتقدات الآخرين تحول إلى ما يطلق عليه بالتنوير المعقلن.

 

تنتشر الكثير من هذه السلوكيات غير السوية التي أعقبت انخداعنا بالمصطلحات المغلفة بمسميات جذابة في مناحي حياتنا المتعددة، بل وصرنا نبصرها واقعا ملموسا ونراها أمام ناظرينا باستمرار، والتي يمكن إدراجها في نظري ضمن الملوثات الأخلاقية التي تخلفها الفضلات الفكرية بفعل ما انسقنا وراءه من مسميات باطلة، والتي يجدر بنا أن نحاربها بشدة لأنها أكثر خطورة من التلوث البيئي الذي تضخ من أجل محاربته والتقليل من حدته ميزانيات مالية ضخمة، يكفينا إغفالا لما أصاب أخلاقنا من أسقام مهلكة لكل ما هو فاضل ونبيل في ذواتنا.

 

إن إفراغ الألفاظ من معانيها وتغليفها بمسميات جذابة، وتفسيرها تفسيرا سطحيا بهدف الإغراء للتطبيع معها والتآلُف معها وإرغام العامة على الانصياع لما هو مغرض والخضوع الكلي لإرادات مقصودة ومتعمدة، كل ذلك يقع تحت ما تمت تسميته بحرب المصطلاحات التي يشنها علينا أعداء الحق، لكي تنشأ في أذهان مجتمعاتنا قناعات مضمونها مبني على استمالتنا وإستثارة عواطفنا، وإلهاب مشاعرنا حول ما يدندنون حوله من ألفاظ باطلة مغلفة بتسميات منمقة، وانسياقنا وركون أنفسنا إليها وسكون عقولنا أمامها واطمئنان قلوبنا لها لمن أكثر ما يزيد من خطورتها، فقد نجني على ذواتنا وعقولنا جناية عظيمة من حيث لا ندري، رغم أننا نحن المسؤولين على ما نقدمه لأهل الباطل من خدمة سخية طالما سعوا لأن يجدوا لها مَنفذا ومُنفذا.

 undefined

مما لا يدعوا للشك أن طغيان سياسة التجهيل وتغييب الوعي في مجتمعاتنا التي أصبحت تأخذ بالقشور ومظاهر الأشياء، ومع ضعف الوازع الديني والإفتقار الشديد للتربية القيمية المتينة تفاقم عطبنا الفكري والسلوكي في ظل إستمرار الحال المزري المليء بالخنوع والهوان المتمكن من مجتمعاتنا، والأمر الذي زاد من هذا السوء هو استفحال ما يسمى بتغليف المصطلحات وتزيينها بمسميات جذابة، ولا يُستبعد ارتفاع منسوب التصرفات اللأخلاقية التي بها تتفشى الجرائم التي تنهك فيها القيم الإنسانية بين أوساط الناس.

 

ويبقى التلاعب بالمصطلحات من أكثر ما يشكل خطرا على مجتمعاتنا؛ فبها يمكن تثبيت التصورات والأفكار المغلوطة التي نستطيع من خلالها توهيم الآخرين بشيء غير سوي وتحويله إلى نقيضه في صورة تحمل كل مقومات التحريف، مما يعني أن لها القدرة على أن تفقد الإنسان التفكير الواعي؛ وهذا بحد ذاته ما يؤكد وجود خطر أكبر مما هو متصور، لأن تغليف الألفاظ وتزيينها بمسميات جذابة بمثابة غزو مصطلحي بفضله يسهل السيطرة على تفكير وتصرفات المتضررين به، فهو في حقيقة الأمر نوع من الخداع الماكر غير المباشر، والذي به يمكن سلب الإرادة بطريقة سلسة ولطيفة لا تترك مجالا لبروز أي أثر للعنف الرمزي المسلط، لهذا فمن الضروري تشخيص مسببات هذه الخطورة التي نتحدث عنها وبيان أعراضها، مع العلم أن الأسباب في مجملها فكرية بالأساس وترتبط بما هو أخلاقي، أما الأعراض فهي متعددة وقد تشمل كل ما هو متعلق بحياتنا كأفراد أو كمجتمعات.

 

علينا أن نكون يقظين ومدركين إدراكا تاما بحقيقة الألفاظ الباطلة التي يضاف لها ما يُحسنها ويرغب فيها ويؤكد صحة شرعيتها بتغليفها المزيف، فليس كل ما هو سائد حقيقي وصائب لهذا لا ينبغي تقبل كل ما هو مبثوث في عالمنا دون تفحيصه وتمحيصه، ففي الغالب ما تقدم لنا مسميات مسمومة في باطنها بينما هي في ظاهرها تبدو الأحلى، فنغتر بها وبشكلها الجميل ولا نتفطن بخطرها إلا بعد فوات الأوان، الأمر الذي  يستدعي مضاعفة الجهد وزيادة العناء في إصلاح ما تم إفساده، في حين أننا كنا قادرين على تجاوز وقوع ذلك، بسد باب كل ما يجعلنا غير قادرين على التدقيق في ما هو رائج من مصطلحات وفتح منافذ الوعي المؤدية إلى إدراك حقيقة الألفاظ. وفي الأخير تجدر الإشارة على أنه من الواجب قبل انطلاق أي إصلاح يلزم البداية من اللبنة الأساسية والتي تتمثل هنا في الألفاظ، فبقدر ما كان رصيدنا المصطلحي صحيحا ويعبر عن أفكار حقيقية صائبة بقدر ما يكون تنزيله سهلا لا يحتاج إلى إحداث تعديلات وتغييرات مكلفة معنويا، ولأجل ذلك ينبغي قبل كل شيء تحرير المصطلحات وضبطها ضبطا محكما لكي يكون ما ينجم عنها سليما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.