شعار قسم مدونات

السودان.. انقلاب غير تقليدي أربك المشهد السياسي

blogs السودان

يبدو أن التحولات السياسية التي جرت في السودان يوم 11 أبريل الجاري أربكت حسابات القوى السياسية. فقد سقط نظام الرئيس عمر البشير الذي حكم البلاد لثلاثة عقود إثر احتجاجات شعبية عارمة امتدت لأربعة أشهر ابتداء من نهاية ديسمبر 2018 وتُوجت بزحف شعبي غير مسبوق في تاريخ البلاد يوم 6 أبريل 2019. عنصر المفاجئة بالنسبة للأحزاب السياسية أن المظاهرات أزاحت نظام الرئيس البشير في لمح البصر وأزاحت خليفته الفريق ابن عوف الذي لم يكن مرغوباً فيه لدى الجماهير المنتفضة ليحل محله الفريق عبد الفتاح البرهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي.

 

من تجليات الارتباك الذي أصاب القوى السياسية أنها حتى الآن لم تدرك كنه ما حصل في البلاد ويتضح ذلك في تعاملها مع المجلس العسكري الانتقالي ومع المشهد برمته. وقد شاهدت مداخلات لكثير من أعضاء القوى السياسية عبر فضائيات عالمية يشككون حتى في جدية ما حصل ويعتبرونه مسرحية "سيئة الإخراج"! وقد مضى بعضهم يعزز أقوالهم بالإشارة إلى قيادات المؤتمر الوطني الذين اختفوا ولا يُعرف عنهم شيء وأن القنوات الفضائية المحلية ما زالت كأنها في العهد القديم وغير ذلك من آثار الحكم السابق.

 

الحكومة الانتقالية هي التي ستقوم بكل ما تطالب به القوى السياسية حالياً وبالتالي فإن الإسراع في تكوين الحكومة سيغنينا عن كثير من المشاكل

هذا الارتباك يعود إلى تغيّر المشهد السياسي في السودان بفضل ارتفاع مستوى الوعي السياسي لدى جماهير الشباب من عمر 15 إلى 30 سنة وهم قوام الحراك الشعبي الذي أطاح بحكم الإنقاذ. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً جوهرياً في هذا الوعي وفي تنسيق المظاهرات وفضح ممارسات الحكومة. الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب لا ينتمي إلى حزب سياسي تقليدي ولا يحمل العُقد السياسية الموجودة لدى التنظيمات السياسية. وبالتالي فإن ما حصل في السودان فريد من نوعه من حيث أنه يجسد إرادة الجماهير من ناحية، ويستصعب الحكم لأي جنرال عسكري أو سياسي مدني لا ينصاع لما يطلبه الجمهور من ناحية أخرى.

 

مشكلة القوى السياسية جميعاً أنهم ما يزالون قابعين في مربع الانقلابات العسكرية التقليدية. وغير مدركين أن ما حصل في السودان ليس إنقلاباً عسكرياً بالمعنى المتعارف عليه وإنما هو مجرد إنحياز لإرادة الشعب من جنرالات الجيش الذين كانوا حتى قبل ساعات من إنهيار النظام جزءً لا يتجزأ منه. وهؤلاء الجنرالات لم يدّعوا أصلاً أنهم جاءوا ليحكموا، بدليل أنهم لم يضعوا خارطة طريق أو يقدموا أي اقتراح. وبالتالي فإن القول بأن النظام ما يزال قائماً لا يسنده دليل بالرجوع إلى بيانات القوات المسلحة. وبما أن المجلس العسكري ليس إنقلاباً عسكرياً، فليس من مهامه إتخاذ أي إجراء بخلاف حفظ الأمن.

 

الانقلابات العسكرية تقع دائماً بعد ترتيب واتصالات سرية ووضع برامج مرحلية كما حصل في مصر مثلاً أو في البلدان الأفريقية سابقاً. المجلس العسكري الحالي ليس له برناج ولا خارطة طريق، وإنما مهمته حفظ الأمن فقط وقد طلب من القوى السياسية التوافق فيما بينها لتكوين حكومة انتقالية وبالتالي فإن مطالبات القوى السياسية التي تشبه المطالبات النقابية هي في غير محلها بتاتاً. وكما قال الصحفي المعروف عثمان ميرغني "هذه المطالبات قد تعطي المجلس العسكري حقوقاً تشريعية يصعب استرجاعها فيما بعد".

 

الحكومة الانتقالية المرتقبة هي التي سوف تعيد هيكلة النظام القضائي ودعمه بكوادر مؤهلة ليقوم بدوره العدلي كاملاً من إجراء المحاكمات للعهد السابق وغير ذلك. الحكومة الانتقالية هي التي ستقوم بكل ما تطالب به القوى السياسية حالياً وبالتالي فإن الإسراع في تكوين الحكومة سيغنينا عن كثير من المشاكل. وجود أعضاء المؤتمر الوطني في مواقع حكومية حتى الآن لا يقدح في مصداقية التحولات السياسية في البلاد، لأن المسألة ببساطة ليست إنقلاباً وإنما مجرد إنحياز لإرادة الشعب وعلى الشعب الآن من خلال قواه السياسية أن يتحمل المسؤولية ويقوم باللازم بدلاً من التباكي وانتقاد المجلس العسكري الذي لا يملك أي شرعية قانونية تخوله إتخاذ أي إجراء ينطوي عليه تداعيات قانونية.

 undefined

أعتقد أن الإسلاميين المناوئين لنظام المؤتمر الوطني هم الأكثر سعادة بسقوط نظام الإنقاذ الذي حكم باسمهم واختطف مشروعهم وشوه سيرتهم. فهؤلاء جميعاً يرون أن الفرصة مواتية لتصحيح الخطأ الذي بدأ أصلاً منذ انقلاب يونيو 1989 الذي جاء بالبشير "رئيساً" وبالشيح الترابي إلى السجن "حبيساً". من بين هؤلاء حركة الإصلاح الآن السودانية  بقيادة الدكتور غازي صلاح الدين ومجموعة السائحون التي تضم "الدبابين" وهم الشباب الذين كانوا يقاتلون في احراش جنوب السودان إبان الحرب الأهلية قبل الانفصال، ومنبر السلام العادل بقيادة الطيب مصطفى وهو خال الرئيس المخلوع، وتيار الأمة بقيادة الشاب المفوه الدكتور الجزولي. هذا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الإسلاميين الواقفين على الرصيف جراء الإحباط الذي أصابهم. فهلاء جميعاً أكثر سعادة بسقوط نظام البشير. العامل المشترك بين هؤلاء جميعاً هو الاعتراف بفشل تجربة الإنقاذ الإسلامية ويبدو من خطابهم السياسي أنهم أكثر تأييداً لفكرة الدولة المدنية التي تقف مسافة واحدة من مواطنيها وتهتم بخدمة المواطن على غرار النموذج الماليزي والتركي. هؤلاء هم أكثر انفتاحاً على القوى السياسية الأخرى وأكثر تفهماً للنّفَس الحار الذي ينبعث من هذه القوى تجاه ما يسمى "الإسلام السياسي".  

 

وقد تشهد الساحة صراعاً سياسياً قوياً بين الإسلاميين المناوئين لحكم الإنقاذ وبين القوى السياسية الأخرى التي ما زالت مشحونة ضد الإسلاميين بفعل الانقلاب المذكور وما تبعه على مدى ثلاثة عقود من ظلم وفساد وإقصاء سياسي باسم الدين. غير أن مستوى الوعي الجماهيري الذي أسقط أطول الأنظمة الدكتاتورية عمراً في القرن الواحد والعشرين هو الذي سيحسم النتيجة النهائية لأي انتخابات ديمقراطية تجري في البلاد، بخلاف الديمقراطيات السابقة التي يفوز فيها منتسبو القوى التقليدية بالإشارة.

 

وبالنظر إلى الخلافات الموجودة حالياً بين القوى السياسية اليسارية والليبرالية والحركات المسلحة نتيجة للتشكيك في مصداقية التحولات الحالية، مما أدى إلى تأخير تكوين الحكومة الانتقالية، فإن ذلك سيعطي إنطباعاً سيئاً ويسبب إحباطاً لدى الشباب الثائر الذي ليس لديه خلفية عن طبيعة الصراعات السياسية التي كانت سبباً في إسقاط الديمقراطية الثالثة. المؤتمر الوطني نفسه ربما تنفس الصعداء جراء ما أصاب قواعده من يأس لعدم قدرة الحكومة على معالجة الوضع الاقتصادي، وربما يعيد ترتيب نفسه فعلاً من خلال وجوه جديدة إذا تبين له أن القوى السياسية عاجزة عن القيام بواجبها تجاه الوطن. المسألة واردة جداً إذا استمرت القوى السياسية في خلافاتها وطرح مطالباتها ووضع شروطها للمجلس الانتقالي بدلاً من الشروع في اختيار الحكومة الانتقالية، والتحرك نحو الأمام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.