شعار قسم مدونات

نينا سيمون.. أن تكون صغيرا موهوبا وأسود

blogs نينا سيمون

"الجاز هو الأخ الأكبر للثورة"

-مايلز دافيس

     

ما قيمة الفنان إذا تجاهل من حوله؟، يشكل هذا السؤال جوهر حياة الفنانة الامريكية ذات الأصول الافريقية نينا سيمون، فحين يكون التمرد شيئا حتميا، لن يكون أمامك أي خيار آخر كفنان سوى أن تكافح بموسيقتك وتعكس هموم الفترة التي تعيش بها، موسيقى الجاز كانت أكثر من مجرد فن بالنسبة لنينا سيمون، بل رمز وجودها المتمرد وأسلوب حياتها الثائر أمام معاناة السود.

     

ازدادت نينا سيمون سنة 1933 أثناء فترة الفصل العنصري في ساوث كارولينا جنوب الولايات المتحدة، ونشأت وسط عائلة فقيرة تنتمي للجيل الثالث من العبيد، بدأت بالاحتكاك مع الموسيقى في الكنيسة التي كانت ترتادها رفقة والدتها وهناك تعلمت البيانو عن عمر لم يتجاوز الثلاث سنوات، وبعد سنة تغيرت حياتها حينما تبنتها موسيقية بيضاء البشرة تدعى موريل مازانوفيتش.

   

في أغنيتها بعنوان "أن تكون صغيرا وموهوبا وأسود" المهداة لروح صديقتها لورين هانزبييري، تسلط نينا الضوء على حياتها وحياة السود في أمريكا عامة والظروف الاجتماعية والظلم والقهر الذي يعانون منه، هذه قصة نينا سيمون صاحبة الصوت الاكثر سوادا.

    

    

باخ رغم أنف الناس البيض

ترعرع نينا سيمون في كنف الكورال الموسيقي للكنيسة جعلها تغرم منذ طفولتها بالموسيقي الكلاسيكي الالماني "باخ"، الذي شكلت مقطوعاته الموسيقية أساسا روحيا لموسيقى المذهب البروتستاتي المسيحي ومصدر إلهام لنينا سيمون بسبب نبوغه وتفرده في العزف.

 

تعلمت نينا على يد معلمتها موريل أبرز مقطوعات باخ وبيتهوفن وتشوبين، فقررت تحقيق حلمها لكي تصبح أشهر عازفة للبيانو من أصل أفريقي، لكن أحلامها تبخرت بسبب الميز العنصري الذي كان المجتمع الأمريكي غارقا فيه أنذاك، وأولى تجليات هذا الحيف كان رفض طلب انخراطها في معهد فيلدالفيا الموسيقي، حيث رفضت إدارة المعهد طلبها لأسباب عنصرية ومنذ تلك اللحظة قررت نينا أن تثور وتكرس موسيقتها للحرية وكسر قيود الميز العنصري.

 

استمرت نينا في الغناء بين الحانات فذاع صيتها بسبب عذوبة صوتها وحضورها القوي في الخشبة، فقررت تغيير لقبها ليصبح نينا سيمون بعد أن كان اسمها عند الولادة يونيس كاثلين وايمون، اختارت اسم نينا الذي يعني بالإسبانية الفتاة الصغيرة، وسيمون نسبة للمغنية سيمون سيجنورت.

   

   

بزغ نجم نينا سيمون بسبب تقديمها لأسلوب جديد إضافة لصوتها المتميز وامكانياتها الرهيبة في العزف والانتقال من اسلوب إلى آخر في أغنية واحدة، لكن بغض النظر عن نجاحها في الجاز، لم تنسى حلمها المتمثل في عزف مقطوعات لباخ، فعلاقتها مع الجاز كانت دائما ملتبسة إذ تقول: "عندما لا يفهم البيض الموسيقى التي تعزفها، فإنهم يسمونك مغني جاز" وبالرغم من أنها لم تعزف مقطوعات لباخ، إلا أن اسلوبه يظهر في مختلف اغانيها، وبالرغم من أنها ماتت سنة 2003 دون ان تحقق حلمها بأن تصبح عازفة كلاسيكية إلا أنها عزفت باخ واطربت الجمهور به طيلة مسيرتها وبالرغم من أنف العنصرين.

  

أغنية لبرنامج لم يُكتب بعد

في حوار مع الصحفية أليسون بويل قالت نينا سيمون عن أغنيتها الشهيرة mississipi goddam  اللعنة ميسيسيبي بأنها نغمة لبرنامج لم يُكتب بعد، فالأغنية بالنسبة لها هي نغمة نبوية ايمانا منها بأن أمريكا ستموت،"تموت كذبابة"، هذه الأغنية التي أدتها نينا سيمون أول مرة سنة 1964 وسط قاعة كارينجي  بنيويرك أمام جمهور معظمه أبيض، صارت نشيدا لحركة الحقوق المدنية "اللعنة ميسيسبي".

  

لقد كان حادث تفجير الكنيسة المعمدانية الإرهابي سنة 1963 بألاباما على يد عناصر من جماعة "الكلو كلوكس كلان" العنصرية والذي راح ضحيته أربع فتيات، نقطة التحول المحورية في حياة نينا سيمون وبداية الغليان الذي ترجمته في أغنيتها، فسارعت بالانضمام لحركات السود المناهضة للتمييز وتأثرت برموزها كمارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس. أظهرت نينا سيمون تأثرا كبيرا بالقائد الثوري الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا وقالت عنه: عندما أقابل نيلسون مانديلا سأرتدي ثوب زفافي الملغي وأزيل ذيله وأضعه جانبا وأقبل الأرض التي يمشي عليها ثم أقبل قدميه".

 

 إن قيمة الفن لا تُستمد فقط من قيمته الجمالية والمجازية فإن لم يكن مرآة عاكسة للمجتمع وصوتا لما يتخبط فيه الأفراد الذين ينتمي لهم الفنان، فهو فن ناقص ويغرد خارج السرب، هذا هو الفن الذي استطاعت نينا أن تقدمه، حين حولت خشبات المسرح لساحات نضال ضد العنصرية، وعن العلاقة بين الفن والسياسة تقول: لا أعتقد أن لديك أي خيار آخر كفنان، سوى أن تعكس هموم الفترة التي تعيش بها، وخاصة عندما يكون كل يوم عبارة عن صراع من أجل البقاء".

  

   

ماذا حدث لكِ نينا سيمون؟

"السيدة سيمون، أنت محبوبة الجماهير الان، لكن ماذا حدث لك؟" هذا السؤال المأخوذ من مقالة للشاعرة الأمريكية مايا انجلو تخاطب فيه نينا سيمون، هو الذي اختير كلقطة افتتاحية للفيلم الوثائقي "ما الذي حدث يا سيدة سيمون؟" للمخرجة ليزا غابورو والذي يتناول قصة صعود الفنانة نينا سيمون وصراعاتها مع زوجها وأمراضها النفسية التي طبعت حياتها القاتمة.

 

يعتمد الفيلم على مقاطع من أرشيف حوارات وحفلات نينا سيمون داخل وخارج الولايات المتحدة، ويصور عن قرب معاناتها وعذاباتها في سنواتها الحاسمة ويؤرشف بدقة وتفصيل حياتها على الخشبة. وعبر سرد متواصل لحياة نينا النضالية والفنية وموازاة مع عرض التراجيديا الشخصية لنينا سيمون وموهبتها، يصور الفيلم فكرة حول معاناة نينا سيمون والحمل الهين الذي كان يرافقها: موهبتها.

 

رحلت نينا سيمون مبكرا عن الولايات المتحدة واستقرت في ليبريا التي لقبتها بجنة العبيد، ومن هناك رحلت لجنوب فرنسا بحثا عن حياة هادئة: "غضبي كان نارا وأنا كنت اغديها طوال الوقت، لكني لست غاضبة الان، أنا فلسفية، وأنا سعيدة بما أنا عليه لأنه ليس بإمكاني تغيير العالم، أنا اتقدم في العمر وليس هناك مصلحة لي في الخروج والقيام بالوعظ كما كنت أفعل".

 

لم تعد نينا للولايات المتحدة الامريكية ابدا، واستقرت في فرنسا لغاية رحيلها عن العالم سنة 2003، تاركة خلفها ارثا فنيا ونضاليا ضخما جعل منها ظاهرة فريدة في عالم الموسيقى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.