شعار قسم مدونات

نصف الثورة.. انتحار محقق!

blogs السودان

اللحظات التاريخية في حياة الشعوب نادرة جداً، والتفريط فيها سيكون مأساوياً بكل ما للكلمة من معنى، فقط جربوا أن تسألوا ثائراً عايش ميدان التحرير لحظة تنحى مبارك، اسألوه اليوم عن شعوره في هذه اللحظات بعد أن ضاعت ثورته في خضم النزاعات والخداع السياسي، تصوروا لو أن الثورة الفرنسية مثلاً انحرفت عن مسارها ماذا كان سيحل بالدولة الفرنسية التي نعرفها اليوم.

 

الثورات قطار مندفع لا يمكن إيقافه، فإما أن توصل شعبها لأرض الأحلام التي يريد، وإما أن تنحرف عن مسارها لتقوده مباشرة إلى الجحيم.. لا توجد منطقة وسطى هنا، لهذا بالذات فإن ما قبل الثورة أيها السادة ليس كما بعدها سواءً انتصرت تلك الثورة أم لم تفعل، الحال بالتأكيد سيتجه نحو الأفضل إذا انتصرت، نحو تحقيق الأحلام التي كانت مستحيلة.

 

نحن محظوظون بوجود قائد لثورتنا، هو تجمع المهنيين.. كيان على الرغم من غموضه فهو يشكل ذلك القائد المنشود الذي يقع خارج دائرة التجمهر ويفكر بعقلانية صرفة بعيداً عن العواطف

أما في حال الهزيمة فقدر مغاير تماماً سيكون بالانتظار، نفق مظلم موسوم بالبؤس والخذلان وكل المشاعر السالبة التي لا محالة ستستشري في نفوس الشعب لتنتج لنا أجيال مقهورة ومجردة من كل أمل. أجيال ستقفز في المتوسط هرباً من الظلم، أجيال ستحقن الهروين في أوردتها لتخفف من وطأة الجحيم المسمى وطناً.

 

فاتورة الهزيمة في الفعل الثوري أيها السادة باهظة للغاية، وأغلى بكثير من فاتورة الاستمرار فيه، فاتورة ستدفعها أجيال قادمة بؤساً وتنكيلاً وغرقاً في مياه المتوسط، الطغيان سيتضاعف أضعافاً مضاعفة مما كان عليه قبل الثورة والاستبداد سيطبق من جديد على كل الأفواه بشراسة لم يسبق لها مثيل..

 

ثوار مصر الذين أسقطوا مبارك هم أنفسهم الذين سلموا ثورتهم على طبق من ذهب للدكتاتور على الرغم من أن الفخ الذي جرى استدراجهم إليه كان واضحاً جداً لكنهم برغم ذلك سقطوا فيه بجدارة، ليس لأنهم أغبياء على المستوى الفردي لكن لأن الجماهير ككل أقل ذكاءً بكثير من أفرادها المكونة لها، لو كان ثمة قائد يثق فيه الناس يقف خارج دائرة التجمهر هذه لربما اختلف الحال حينها، نفس الكلام بإمكاننا أن نقوله عن سوريا، فبطريقة مكشوفة تمكن النظام من حرف شعارات الثورة الأساسية وتقسيم الثوار خلف رايات الأيدولوجية الضيقة.. وكذا الحال في ليبيا. 

 

نحن محظوظون بوجود قائد لثورتنا، هو تجمع المهنيين.. كيان على الرغم من غموضه فهو يشكل ذلك القائد المنشود الذي يقع خارج دائرة التجمهر ويفكر بعقلانية صرفة بعيداً عن العواطف التي تتملك الجماهير. ثم هل تذكرون الرماة على جبل أحد وحديث الرسول لهم بضرورة الثبات في مواقعهم مهما حدث لكنهم عندما بدأت بشائر النصر تلوح أغرتهم الغنائم فتركوا الجبل، هذا المشهد ما زال يتكرر باستمرار منذ ذلك الوقت.. وقد حدث لنا نحن السودانيين مرتين في 1964، 1985.. فبعد انتصار الثورة انشغلت أحزابنا السياسية بالصراع حول الكعكة ليأتي العسكر حينها ويقلب الطاولة على الجميع.

 

مجدداً أقول إن لحظة انتصار الثورة يا سادة هي اللحظة المثالية لسرقتها، عندما يبدأ الجميع في الشجار حول الغنائم وحصد الثناء، في هذه اللحظات بالذات تجتمع ضغمة أخرى من الطغاة والجنرالات للتآمر على الثورة وسرقة مكتسباتها، أتمنى أن نكون أذكى هذه المرة، وأكثر تماسكاً.. يقولون إن الشعوب لا تتعلم من تجارب غيرها، هي تتعلم فقط من تجاربها الشخصية، ولهذا بالذات أنا متفائل.. فقد تمت بالفعل سرقتنا من قبل في مناسبتين، لذا فتكرار هذا الأمر مجدداً يبدو مستبعداً..

 

أتمنى أن نستوعب الدرس هذه المرة بصورة أفضل، وأن نتجنب الوقوع في فخاخ الجنرالات ومؤامرات الثورة المضادة التي تتربص بنا من كل مكان.. وبالرغم من أننا تعبنا لكن تذكروا أن "لا أحد يمكنه الاستلقاء أثناء المعركة" كما قالها الشهد عبد العظيم قبل ساعات من وفاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.