شعار قسم مدونات

"التحالفات الخفية".. هل تصبح الصين مفتاح سقوط الاتحاد الأوروبي؟

مدونات - زيارة الرئيس الصيني إلى أوروبا

"نحن لا نسعى للهيمنة العسكرية أو الجيوسياسية، نحن فقط نراقب كيف تسقط الحواجز القديمة أمام القوة الناعمة الصينية"

    

هكذا بكل ثقة افتتح الرئيس الصينى شى جين بينج زيارته لأوروبا التي جاءت في توقيت ذكى للغاية من 21 حتى 26 مارس 2019 حيث ثلاث محطات تبدأ من إيطاليا مرورا بأمارة موناكو وصولا إلى فرنسا.

    

تعلم أوروبا جيدا أن الزيارة الصينية ليست سحابة دبلوماسية عابرة من نوعية بحث العلاقات الثنائية والعمل والتعاون المشترك، والخلاصة إلى مصافحات وابتسامات تؤطرها الصور التذكارية، بل هي زيارة جادة للغاية وذكية زمانا ومكانا، فالتنين لن يتحرك إلا لينجز وقد حدث، فالمعطيات لا تزال تمطر الجميع بأزمات مزمنة إلى حد ما من قيود تجارية متبادلة وتعثر ممل لملف بريكست وتجدد الخلافات بشأن ملفى إيران وكوريا الشمالية، وكل تفصيلة مما سبق تحتفى ببصمات ثلاثة أطراف أساسية "أمريكا والصين وأوروبا" وهو ما يؤكد جدية الزيارة الصينية التي تزامنت مع قمة الاتحاد الأوروبى وفشل ترامب للمرة الثانية في عقد لقاء قمة مع نظيرة الصيني الذى لم يذهب إلى واشنطن أو بقى في بكين لاستقبال ترامب، بل ذهب إلى روما الراكدة اقتصاديا وصاحبة أكبر ثاني مديونية في منطقة اليورو.

    
على شرف مشهد حضور الصين في إيطاليا جرت مياه كثيرة، فقبل لقاء جين بينج، رئيس الحكومة الايطالية كان الأخير في بروكسل لحضور قمة الاتحاد الأوروبي التي وضعت على جدول أعمالها ملف "استراتيجية مواجهة النفوذ الصيني" كأهم ثاني ملف بعد بريكست، وهناك عبر قادة أوروبا عن غضبهم من وقوع إيطاليا في الفخ الصيني ودار سجال حاد افتتحته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موجهة حديثها لجيوزيبى كونتى رئيس وزراء ايطاليا قائلة "الاتحاد الأوروبي كتلة قوية ولاعب دولي مؤثر، فلماذا تعقدون اتفاقيات ثنائية مع الصين دون التنسيق معنا، هل تريدون أن يكون الاتحاد في المركز الثالث بعد أمريكا والصين؟!، هذا غير مقبول من دولة مثل إيطاليا مؤسسة للاتحاد، الصين لن تعاملنا في أسواقها بالمثل".

      

  
حينها استلم ماكرون دفة الهجوم من ميركل ولكن كان أكثر واقعية حين قال "الحقيقة أننا مهدنا لهم الطريق لينقضوا بفائض السيولة النقدية على الأصول الأوروبية، فالصين تلعب على انقسامنا ونهجنا المبعثر ونحن أخطأنا في حق المشروع الأوروبي منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 التي لم تتعافى منها إيطاليا حتى الآن، بل لم نحمى بالشكل الكافي القطاعات الاستراتيجية في دولنا من الاختراق الصيني ولم نوفر للشركات الأوروبية فرصا مناسبة للمنافسة".
     
أما جان كلو يونكر رئيس المفوضية الأوروبية فقد أشار إلى عدم تكافؤ الفرص التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين وعدم قدرة إيطاليا حاليا على سداد القروض الصينية الضحمة في مجال البنى التحتية، بالإضافة إلى وضع المفوضية لحظة العشر نقاط التي تدعم الاتحاد الأوروبي في مواجهة الطموح التجاري للصين في أوروبا والتي من أبرزها إلزام الشركات الاجنبية العاملة في الأسواق الأوروبية بنقل متكافئ للتكنولوجيا واعتماد أدوات دفاعية للتجارة مع الخارج وإنشاء جهاز لمراقبة الاستثمارات الأجنبية التي تهدد الأمن الأوروبي.
  
هنا جاء دور جيوزيبى كونتى رئيس وزراء إيطاليا الشعبوى ليذكر الجميع بعلاقاتهم الخاصة مع الصين المستثمر الأول في سندات الخزانة الامريكية، وكذلك بأن ألمانيا هي الشريك التجاري الأول للصين، وأن استثمارات الصين نفسها في بريطانيا تقترب من حدود المائة مليار دولار، كما أن الاتفاقية بين بلاده إيطاليا والصين نالت موافقة المفوضية الأوروبية قبل توقيعها، بالإضافة لحاجة روما لاستثمارات بكين الهائلة في هذا الظرف الاقتصادي الحرج.

       

لأن الرئيس الصيني جين بينج يعلم مكانة فرنسا جيدا فقد افتتح زيارته لها بالتعاقد على شراء 290 طائرة إيرباص بنحو 30 مليار دولار
لأن الرئيس الصيني جين بينج يعلم مكانة فرنسا جيدا فقد افتتح زيارته لها بالتعاقد على شراء 290 طائرة إيرباص بنحو 30 مليار دولار
     

المثير هنا أن كل هذا جرى والرئيس الصينى يستمتع قبل التوقيع على الاتفاق بحفاوة الاستقبال في إيطاليا التي شهدت أيضا في نفس الوقت محاضرة لستيف بانون مستشار ترامب السابق للشئون الاستراتيجية في روما بعنوان "خطر الصين على أوروبا!"، فبانون المطرود من جنة ترامب هبط على إيطاليا منذ 2018 لمراقبة صعود الشعبوية المتمثلة في حركة النجوم الخمس لحكم روما وللتحضير ومتابعة أثر ذلك على انتخابات البرلمان الأوروبي الجديد في مايو المقبل.

    

وهو ما أتاح له التعقيب بتعليقات مثيرة عن قضايا دولية أولها الشراكة بين إيطاليا والصين التي وصفها بأنها خطأ كبير جدا يشق صف الائتلاف الحكومي في روما، ليتناول بعدها أهمية الانتخابات الأوروبية المقبلة التي سوف تحدد قوة أوروبا بين منطق الولايات المتحدة الأوروبية التي تريد فرنسا وألمانيا إنشائها وبين نمو الأحزاب الشعبوية التي تهدد القوى التقليدية القديمة، ولم ينس بانون التذكير بفساد السلطة في روسيا حليفة الصين، وبأن كل الاقتصاد الروسي يعادل اقتصاد ولاية نيويورك فقط، وكذلك الرهان على فوز ترامب بولاية ثانية يقصم فيها ظهر الصين ويعيدها إلى صوابها وحجمها المناسب على بعد مسافات كبيرة أسفل أمريكا وأوروبا وحلفائهما الرئيسين.

   
بالطبع عاصفة الأمريكى ستيف بانون في إيطاليا زادت من انشغال الإعلام الغربي بتفنيد المكاسب الكبيرة التي تعود على الصين من اتفاقيتها مع إيطاليا التي لن تجنى سوى القليل منها وتجلب الكثير من المشاكل للاتحاد الأوروبي وتجعله بين خيار تجارى حاسم بين التعامل مع واشنطن أو بكين. وبعد انتصار الصين في إيطاليا بضمها للحزام والطريق لتصبح الدولة رقم 14 أوروبيا في المبادرة وإتمام توقيع اتفاقيات تجارية تقترب من 10 مليار دولار، انطلق الرئيس الصيني شى جين بينج يوم الثلاثاء 26 مارس إلى فرنسا حيث لقاء المنتقدين ماكرون وميركل ويونكر للتحضير للقمة الأوروبية الصينية في بروكسل 9 أبريل القادم.

    

  
ولأن بينج يعلم مكانة فرنسا جيدا فقد افتتح زيارته لها بالتعاقد على شراء 290 طائرة إيرباص بنحو 30 مليار دولار ردا على أمرين أولهما صفقة الهند 2017 مع نافال الفرنسية لشراء 126 طائرة رفال بقيمة 19 مليار دولار، والأمر الثاني للتأثير على صفقة الغواصات بين فرنسا واستراليا البالغة نحو 50 مليار دولار لحماية جزيرة كليدونيا التي يقطنها أكثر من 1.3 مليون فرنسي والواقعة بالقرب من استراليا والمطلة على مشارف بحر الصين الجنوبي أيضا.
     
ورغم صفقة الثلاثين مليار لم يفوت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفرصة للتعبير عن قلقه حيال تمدد الطموح الصيني الذى يجب أن يكون الرد عليه أوروبيا وطلب أن تكون مبادرة الحزام والطريق مفيدة في الاتجاهين وأن يكون الوصول المتبادل والعادل للأسواق هو معيار تعامل الصين مع أوروبا، كما انتقد ماكرون ملفى حقوق الإنسان وتواجد الصين في أفريقيا بالإشارة أن الأول معيار عالمي وليس شأن داخلي صيني، وأن الملف الثاني يتطلب التنسيق بين البلدين خاصة مع الحضور الفرنسي المهم في أفريقيا التي تعيش بلدانها في فخ الديون الصينية المستمرة أمثال جيبوتى التي تحتضن قاعدة عسكرية فرنسية وتشهد أيضا على موانئها إنشاء أول قاعدة عسكرية للصين بالخارج، كما أن تدفقات الصين الاستثمارية تنهال على إثيوبيا وكينيا اللتان تشهدان ارتكازا للحضور الفرنسي في أفريقيا، وعلى الجانب الأخر لم يتخلى شى جين بينج عن ابتسامته الدبلوماسية أمام قذائف ماكرون ليؤكد أن الصين تريد أوروبا موحدة وقوية وتستفيد من نمو الصين الهائل.
     
ختاما، تفتح تفاصيل هذا المشهد الكبير شهية تساؤلات واسعة عن مدى احتمالات المزيد من الانقسام في الاتحاد الأوروبي بسبب الصين؟، وعن إمكانية نشوب حرب تجارية أوروبية صينية إذا ما تعقدت الأمور أكثر ولم يتحقق الوصول المتبادل للأسواق والاستفادة المتوازنة بين الجانبين؟!، وأيضا عن موقف ترامب من الصين التي لم يحسم حربه التجارية معها بعد، وعن الموقف الأمريكي من حليفته أوروبا التي قد تشهد وارداتها المزيد من الرسوم الأمريكية مستقبلا؟!، يبدو أن الجميع الأن ينمو في ظل الصين وليس العكس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.