شعار قسم مدونات

لماذا تختفي مواهب أطفالنا؟

blogs التعليم

من سنوات طويلة نرى ونسمع عن مواهب فذة لأطفال في عُمْر الخامسة والسادسة، منهم من يحفظ القرآن العظيم على نحو يُحير الألباب ويُدهش العقول، ومنهم من يجمع مع حفظ القرآن الكريم صحيح البخاري ومسلم، ومتونا عديدة، نفرح ونسعد ونبتهج بمقاطع الفيديو الرائعة التي تنتشر على نطاق واسع، لكنني أتساءل مع غيري: أين تذهب هذه المواهب؟ ولماذا تختفي؟ هل توقفت عند الحفظ وجمال الصوت وحسن الأداء؟ الأصل أن يكون هذا الطفل الواعد داعية عظيما الآن، أو فقيها راسخا، أو أديبا ينثر المعاني كالورد والرياحين، فأين هم؟ هل ذابت مواهبهم أم أصابتهم سهام العيون؟ أقول لنفسي لعلَّ جهلك بالشيء ليس دليلا على عدم وجوده.

  

كنت أرى لطفل منذ سنوات بعض مقاطع على اليوتيوب يخطب في الناس وهو ابن خمس سنين كأنه وُلِد خطيبا، فرجوت لو زحف به الزمان فيحدو الجماهيرَ نحو الحق والعدل، لكنني أقَلِّب النظر في الناس من حولي ولا أرى أثرا. وماذا عن المواهب الأخرى في الفن والشعر والرياضة والعلوم والتكنولوجيا وغيرها؟ هناك كثير من الأطفال في العالم العربي والإسلامي يتمتعون بمقومات العباقرة، لكنَّ يد الإهمال وعين التجاهل تقتل أحلام الأمة فيهم.

 

لعل حُكْم من لا خَلاَق لهم أوجد حالة عامة يودوا لو أن الناس جميعا لا يفقهون شيئا ولا يهتدون، ولكن لا مانع عند هذه الأنظمة من أن يبرز طفل أو شاب في جمال الصوت والترنم به في المحافل العامة التي يرتادها من لا يبرحون الحروف والألفاظ، فليستمتعوا وليحركوا الأكتاف ويهزوا والرؤوس طربا وكفى، أمَّا أن تتحرك القلوب نحو خالقها ومالك أمرها، وتستيقظ العقول وتفك عنها قيود الجهل والتقليد، فهذا هو المحظور الذي عليهم اجتنابه. والمناخ الفاسد لا ينتج زرعا يُعجب الزُّراع، أو يغيظ كارهي الخير للناس، ويرى المتأمل أن كثيرا من المواهب والقدرات تُقبَرُ مع أصحابها.

 

لماذا نحرص على النُّسخ المكررة؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يكون أصحابه نسيجا متكاملا، فلم يجعلهم على قالب واحد

إن يد القدرة الإلهية تستنقذ ما يمكن إنقاذه من الكنوز والذخائر، يذكر لنا الإمام الشعراوي -رحمه الله- أنه لم يكن يريد دخول الأزهر، لكنَّ أباه أصرَّ على أن يسجله ليكون عالما، وحاول الشيخ الشعراوي بكل طريق أن يضع العقبات أمام والده حتى ييأس، ولكن هيهات، وشاءت إرادة الله أن تمضي إلى غايتها ويلتحق الشيخ بالأزهر الشريف حتى أصبح إماما مُجددا في تفسير القرآن الكريم على نحو لم يُسبَق إليه.

 

ومع العلامة القرضاوي يتكرر المثال، فقيَّض الله رجلا مرَّ يوما على أسرة الشيخ وهم في الحقل وكان بصحبة عمه وأبناء عمومته، وقد طلب الشيخ منهم جرعة ماء ثم آوي إلى ظل وقد ألهمه الله أن يسأل الشيخ القرضاوي وهو صغير هل تحفظ القرآن؟ فقال نعم أحفظه، وبدأ الشيخ يسأل وهو يجيب دون خطأ أو لحن، ثم سألهم أن يعلموه في الأزهر، وأصبح بعدُ فقيه العصر وإمام الدنيا. وقد ذكر الإمام القرضاوي القصة بتفصيل في مذكراته. ترى كم من قرضاوي وغيره من مواهب نادرة ضاعت وتاهت وانتهى مآل أصحابها إلى الجلوس على مكتب مُهَلهل وأوراق متهالكة تحيط به من كل جانب.

 

ومثال آخر قادم إلينا من المستطيل الأخضر، من عالم الساحرة المستديرة كما يحلو للبعض تسميتها، إنه اللاعب المصري نجم نادي ليفربول الإنجليزي محمد صلاح الذي خطف الأضواء، وجذب إليه أنظار العالم، وانتزع الإعجاب من الجماهير العريضة بأدائه، ومهاراته وإنجازاته وحسن خلقه، ولولا عزمه وحزمه ومَقادرٌ بَلَغَت، ثم توفيق الله له من قبل ومن بعد لما وصل إلى ما صار إليه. وهناك أمثاله في جميع المجالات من المواهب المطمورة بالحسد والكراهية.

 

ماذا عن أطفالنا في أوروبا؟

البون شاسع بين العالم العربي المنكوب بالظلم وبين أوروبا، من حيث التفرُّس في قدرات الأطفال واكتشاف مواهبهم وصقلها والعناية بهم وفق خطوات وأصول علمية مدروسة، وتوفير جميع الظروف الملائمة لكل طاقة حتى تَخرج للوجود، وما على الأسرة إلا أن تستفيد من هذه الفرص المتاحة، وهناك كثير من أطفال وشباب مسلمي أوروبا برزوا في مجالات عديدة، علمية ورياضية وفنية وحققوا مراتب عالية.

  

أريد أن أهمس في أُذن الوالدين بالآتي:

– لا تضيعوا مواهب أطفالكم واجهدوا في اكتشافها، فهى كالذهب الكامن في الصخر كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:

والتِّبر كالتُرب مُلقى في أماكنه

والعود في أرضه نوع من الحطب

  

– اعلموا أن كل طفل موهوب في شيء، ودورنا هو اكتشاف هذه الطاقات والسهر على ترقيتها.

 

– لا عذر لنا إن قعدت بنا الهمة، أو ألهتنا الشواغل، فأولادنا هم الأولوية الأولى والثانية والثالثة.

 

 – أفضل ما يقدمه المسلم للمجتمع وللأمة والإنسانية هو إنسان مكتمل البنيان الروحي والخلقي والعلمي.

 

– لا تقعوا في خطر المقارنات فكل طفل خصه الله تعالى ما يفوق به غيره، ولا تغفلوا الفروق الفردية بين الأطفال، فإنما هي من سُنن الله في خلقه.

 

فرصتنا في اكتشاف وتنمية وتوظيف مواهب أجيال مسلمي أوروبا كبيرة جدا، حيث ظفرنا بالخير من أطرافه، فعندنا رصيد الوحي وتراث السابقين عبر تاريخنا الممتد

جاءني يوما أحد الآباء يشكو من تكاسل ولده الثاني في حفظ القرآن الكريم، وقال: لماذا لا يكون مثل أخيه الأكبر؟ فقلت: ولماذا يكون مثل أخيه؟ لماذا لا يكون نفسه؟ قال تعالى "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"، سألته إلى أي شيء تنصرف همة ولدك الثاني؟ قال: إلى الفك والتركيب، إنه يفتت اللعبة إلى أجزاء كالشظايا ثم يعيد جمعها! اندهشت من عدم إدراك هذا الأب لما يتمتع به ابنه من ذكاء وإبداع.

 

لماذا نحرص على النُّسخ المكررة؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يكون أصحابه نسيجا متكاملا، فلم يجعلهم على قالب واحد، لأن الأمة بحاجة إلى رقة أبي بكر، وشدة عمر، وعقل علي، ولين عثمان، وبأس خالد، وسياسة معاوية، ودهاء عمرو، وزهد أبي ذر. رضى الله عنهم جميعا وصلى الله على من رباهم.

 

كيف تنمى أوروبا مواهب أطفالها؟.. ألمانيا نموذجا

يروي لي أستاذنا الداعية الجليل د. أحمد الخليفة مدير المركز الإسلامي في ميونخ تجربتين في المدينة، الأولى: أن مدينة ميونخ تنظم يوما كل عام للأطفال تدربهم على القيادة، فتخصص مساحة كبيرة على أنها مدينة مصغرة لميونخ ويقوم الأطفال بإدارتها ويقوم كل طفل بدور أحد مسؤولي المؤسسات، فهذا عمدة المدينة، وذلك مدير الصحة، وتلك مديرة الأمن أو دائرة العمل، ويمضي اليوم وقد كسب الأطفال خبرات وربحت المدينة جيلا بدأ يتدرج ليقود الحياة في يوم قريب. قلت: لماذا لا تحاكي المساجد الكبرى والمؤسسات الإسلامية هذه التجارب لتصنع من الأجيال القيادات التي تحفظ هذه المؤسسات وتقوم على عمارتها وصيانتها بدلا من الفراغ الذي ينتظرها إن بقينا على حالنا هذا؟!

 

الفكرة الثانية: وهي فكرة "جامعة الطفولة" تتلخص في تنظيم يوم علمي ثقافي للأطفال يقدم فيه مجموعة من العلماء والخبراء في الرياضيات والفلك والفيزياء والشعر وغيره فكرة عن هذه العلوم بما يناسب مستوى أعمارهم. ولا ريب أن هذه التجربة تستخرج المواهب وتستفز العقول مبكرا نحو التميز والتألق.

  

تلفَّتُ خلفي لسيرة أمتنا فوجدت صفحات باهرة في مقدمتها: عناية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالأجيال الجديدة وتقدير مواهبهم، وكان ابن عباس رضى الله عنهما يحضر المجالس صغيرا ويدرك من دقائق العلوم ما يخفى على كبار الصحابة الكرام، ولا عجب، فقد نالته بركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل" ولقد بلغ شأوا عظيما قال عنه الإمام علي كرم الله وجهه: "إذا فسر القرآن كأنه ينظر إلى الغيب من سِتر رقيق".

 

إن فرصتنا في اكتشاف وتنمية وتوظيف مواهب أجيال مسلمي أوروبا كبيرة جدا، حيث ظفرنا بالخير من أطرافه، فعندنا رصيد الوحي وتراث السابقين عبر تاريخنا الممتد، ومجتمع أوروبي وافر الإمكانات يغالي بمواهب أبنائه ولا يدخر جهدا في الارتقاء بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.