شعار قسم مدونات

لماذا يسافر العقل عبر الزمن؟

BLOGS تفكير

رغم أن الجسد لا يستطيع أبدا أن يكون فى اللحظة القادمة.. لا يستطيع أن يكون موجودا في نقطة ما في المستقبل يحس ويشعر بها.. إلا أن العقل يستطيع فعل ذلك وبجدارة.. يستطيع أن يقفز إلى مربع قادم من الزمن ويحسب لو أنه تحرك هكذا ثم انحرف هكذا سيصل لنقطة بعينها.. لاعبى الشطرنج يملكون خبرة واسعة وتكنيك ذكى فى حسابات الحركة ولكن ستلاحظ شيئا غريبا.. إنك لا تجد لاعب شطرنج محترف يتحرك بسرعة أبدا.. 

يواجه الناس في العالم الحالى مشكلة التوتر والذى هو معناه تسارع الأفكار والتصورات المستقبلية حتى تعمى العين عن رؤية المشهد الحالي، يمكن أن يجلس أحدهم أمام حديقة غناء وتغرد البلابل من حوله ويداعب وجهه نسمات الربيع ولا يوجد فى العالم حوله شىء يدعوه للكآبة أو القلق.. لكنه فعليا لا يرى كل ذلك ولا يسمع.. هناك شاشة عرض كبيرة بداخله تعرض مشاهد من المستقبل المجهول وتضع نقاط من السم فى مشاعره فتتحول إلى قلقة سوداء.. فلا يكاد يشعر بالجمال ولا السعادة.. تفكر إنك مخنوق وتريد أن تسافر لبلاد بعيدة كى تستمع بالخضرة الطاغية.. فى حين أنه يقف أمامك شجرة زاهية بالفعل تحمل غصونها ورود صغيرة مليئة بالتفاصيل.. يقول الشاعر طاغور: "لقد أنفقت ثروة طائلة في السفر إلي شواطئ بعيدة.. فرأيت جبالا شاهقة ومحيطات لا يحدها حد.. ولكني لم أجد متسعاً من الوقت لأن أخطو بضع خطوات قليلة خارج منزلي لأنظر إلى قطرات الندى على ورقة واحدة من أوراق العشب".. فما الذى يجعل الإنسان يرى ولا يرى؟.. ويسمع ولا يسمع؟.. ويمضى عمره يفكر فى اللحظة التالية؟.. هذا سؤال بحاجة إلى علاج لأنها حياة تعيسة تلك التى يحيا سائلها.

من الصعب على العقل أن يغير نمط تفكير اعتاد عليه لسنوات طويلة وسط عالم مادى متسارع.. لكنى أقول أن قدرتك على تغيير نمط التفكير هذا ينبع من فهمك لحقيقة الأشياء

اعتاد الإنسان التفكير فى احتياجاته فلما وجدها تتحقق بدأ يفكر فى آماله التى هى أكبر بكثير.. آماله التى تسعه هو وتسع الآخرين.. ربما لا تخصه حقا.. كأن يفكر أنه يريد أن يكون عازف جيتار ماهرا ومهندسا بارعا وكاتبا موهوبا.. إنه يريدهم جميعا معا .. ويخيل له الشباب والقوة أنه قادر على إمساكهم فى لحظة واحدة.. على الوصول لقمم الجبال فى وقت واحد.. فى حين أن الوصول لقمة جبل واحدة أصلا شاقة وتحتاج لكثير من الصبر والتحمل والتركيز فيها وحدها.. علينا أن نفرق بين ما يتوهمه العقل من قوة وما يملكه الجسد الإنسانى من قوة فعلا.. وعلينا أيضا أن نعرف أن الوصول للقمة دون التعلم من رحلة التسلق والاستمتاع بها لا طعم له.. لقد جربت تجربتين.. صعدت جبل كاترين مرة فى يوم طويل من أوله ومشينا بمهل حتى وصلنا فى الليل.. وصعدت مرة ثانية في الليل فى وقت قصير جدا كى تلحق المجموعة شروق الشمس.

أقول لك بكل ثقة أنه فى المرة الثانية لا أتذكر أى شىء بالمرة سوى حينما قاربت على القمة كنت أكاد أموت من التعب وأن الناس حولى كانت تتوجع وتتساقط.. لا أذكر حتى أننى استمتعت بالوصول للقمة عوضا على أنى لم ألحق الشروق أصلا.. فى حين كانت المرة الأولى رائعة.. شعرت فيها بكل شىء.. شعرت بالحماس ثم التعب ثم الملل ثم الأمل ثم جمال لحظة الغروب.. كانت أسعد رحلات حياتى وتعلمت فيها الكثير جدا.. أدركت أن السرعة تجعل الطعام لا ينضج جيدا.. والإنسان لا يتعلم جيدا.. والعلاقات لا تدوم.. والإنسان لا يسعد.. يقول الشباب دائما أننا فى عصر السرعة وعلينا أن نركض كى نلحق بقطار أحلامنا.. لكنى أجد مثلا أن فيلم كارتون محترف كـ(brave) استغرق ثلاث سنوات كى يرسموا شعر البطلة.. فلماذا لم يتباهى هولاء بسرعتهم بل تباهوا بإتقانهم.. لأنه هو الأهم.

أحيانا يتمنى الإنسان أن يعود كما كان صغيرا.. يفرح بالشىء البسيط الصغير ويجده مثيرا للأهتمام.. يأخذ منه جل اهتمامه لفترة حتى يفككه ويتأمل ألوانه وتفاصيله.. إنه لا يفكر فى الفرصة التى سيستغلها ولا المال الذى سيجنيه ولا النجاح التى سيحققه.. إنه لا يفكر كيف سيثبت نفسه في عالم ملىء بالتنافس على الابهار وجذب الانتباه.. لا يفكر فى أن يكون بطلا هو فقط يريد أن يستمتع ويتعلم، وهذا الذى يجعله فعلا يرى أكثر مما يرى غيره.. لأن الذى يريد أن يتعلم سيفتح الله عز وجل عليه بنيته.. والذى يريد غير ذلك سيرزقه بقدر ما نوى.. فالحل لمسألة التوتر أن نخرج التفكير المادى من عقولنا.. ونترك للفطرة الإنسانية السليمة أن تسرى فينا.. فطرة الفضول وحب المعرفة.

ربما من الصعب على العقل أن يغير نمط تفكير اعتاد عليه لسنوات طويلة وسط عالم مادى متسارع.. لكنى أقول أن قدرتك على تغيير نمط التفكير هذا ينبع من فهمك لحقيقة الأشياء.. إن الله عز وجل خلق كل شىء متقن الصنع.. كل شىء يستحق أن تتأمله وتحسه وتشمه.. وكلما زاد فهمك الحسى وليس العقلى فقط لخلق الله كنت أكثر هدوءا وقدرة على تحديد الهدف الذى يريد.. كلما استغرقت وقتا فى معرفة ما تحب.. وما يسعد به قلبك.. استطعت جيدا أن تعرف ما الدور الذى ستلعبه فى الحياة وزال الكثير من قلقك.. أحيانا أقول لنفسى دعيهم يركضون.. دعيهم يلحقون بقطار لا يعرفون وجهته اصلا.. أنا لا أريد الركض.. أنا أريد الاستمتاع والتعلم والحب والسعادة.. هذه أمور تأخذ وقتها في النضج.. وهى أمور لا يراها من يركض بل يتخطفها فى طريقه خطفا كزجاجة ماء تنجده من التعب..

إننى لا أكاد أتخيل رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يركض فى رحلته.. بل اتخيله حليما صابر رحيما بمن حوله.. أجد دائما أن الرسل قد نزل عليهم الوحى وهو فى الأربعون.. بعدما اكتمل نضجهم العقلي والنفسي والجسدي.. بعدما قضوا شطرا من حياتهم فى مهنة رعى الغنم (ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم).. بما يعنى ذلك من صبر وعناية وبحث عن أماكن الخصب وتجنب أماكن التهلكة وتأمل فى الليل والنهار.. وتحمل حياة شاقة قاسية كى يشتد عوده.. وقيادة الغنم الطائع والمتمرد والضعيف والسارح.. والتواضع والشجاعة فى مواجهة الخطر.. المهارات الحياتية الأكثر تأثيرا تجنيها من مهنة لا يتخيل الإنسان الحالى فكرة فعلها فى خضم حياته السريعة المتلهفة.. علينا أن نضغط على المكابح ونؤمن أن وجودها فى حياتنا ضرورى لانقاذنا من حوادث الحياة.. ضرورى للتوقف على جانب الطريق وتغيير نمط التفكير ذاته وليس الأهداف والخطط..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.