شعار قسم مدونات

الثورة السودانية في كف عفريت

blogs السودان

يتساءل كثيرون: لماذا حرام على شعوب العالم الثالث عامة وشعوب الوطن العربي خاصة إنشاء حكومات ديموقراطية تحتكم إلى خيارات الشعوب، الإجابة ببساطة أن دول العالم الأول بالاتفاق مع ديكتاتوريات العالم العربي تريد لهذه الشعوب أن ترزح تحت نير الاستعمار (غير المباشر) إلى الأبد، وذلك لتحقيق هدف المتسلطين العرب بالحفاظ على حكوماتهم في مقابل السماح للمستعمر بتقاسم ثروات هذه البلدان، فرغم الشعارات المرفوعة من القوي الكبرى المنادية بتصدير الديمقراطية إلى دول العالم الثالث، إلا آنها تظل مجرد شعارات سريعاً ما يتم الالتفاف عليها وتثبيت حكومات تعرف كيف تمثل بالديمقراطية لإخراج أنظمة عميلة للغرب، فلا مجال لأي حلم لهذه الشعووب بديمقراطية حقيقة تكون كلمة الفصل فيها للشعوب، وإلا لما وجدت هذه الدول الكبري أي نظام يسمح لها بلمس ضرعها دعك من حلبها صباح مساء.

  

إنّ أكثر الأمثلة دلالةً على هذا هو الحرب الضروس على ثورات التحرر العربي وتحويلها إلى ثورات مضادة تكون أسوأ في تسلطها وجبروتها من سابقتها، وذلك لاحباط وتثبيط همم هذه الشعوب الثائرة وتلك التي تحدثها نفسها بالثورة من أنّ القادم ليس ورديا كما تحلم. ولكن لماذا كل هذا الخوف من الديمقراطية والحرية ومطالب الحكم الراشد؟! إن أكبر قوتين عربيتين (قوة مالية) الإمارات والسعودية خائفتين من أي تحول ديمقراطي حقيقي في البلدان العربية، وذلك لسبب رئيسي واحد وهو: بما أننا لا نبسط مثقال خردل من حرية لشعوبنا، ولا يوجد حسيب ولا رقيب لأفعالنا وبما أنّ الديمقراطية عكس ذلك كلِّه، فهي محرمة على أي دولة عربية حتى لا تكون مثال يهتدي بها شعوبنا.

 

مع استغلال أكبر لوسائل التواصل الإجتماعي التي أبدع الثوار في إدارتها، فكان أي فرد في الشارع مراسل ومصور للثورة، وبدأت تظهر صدقية سلمية الثورة مقابل بربرية ودموية قوات الأمن

إن السودان وبما يملكه من موارد ضخمة، وفي حال نجاح الثورة في تثبيت حكم ديمقراطي قائم على احترام القانون والشفافية والمحاسبة، واستغلال هذه الموارد للنهوض بالبلاد، فإنه يمكنه الخروج من الحفرة التي أوقعه فيها النظام الديكتاتوري السابق، وستصبح مثال لدولة نامية قادرة على التطور والتقدم، لذلك تسابقت الأمارات والسعودية في دعم المجلس العسكري، لا لحثه على تسليم السلطة لحكومة مدنية كما تطالب به قوي الثورة، وإنما لمساعدته للالتفاف على أهداف الثورة ومن ثم استنساخ نظام السيسي في مصر.

 

قد تكون تظاهرات السودان زمنياً أطول تظاهرة في التاريخ، حيث بدأت في التاسع عشر من ديسمبر من مدينة عطبرة (مدينة الحديد والنار) ومستمرة حتى اليوم (التاسع والعشرون من إبريل) تاريخ كتابة هذه السطور. هذا الزلزال في عطبرة أدّي إلى ارتدادات وهزات في بقية مدن السودان التي خرجت في مواكب هادرة وخاصة في العاصمة الخرطوم التي جابه فيها الثوار آلة القتل الجبارة للنظام المتمثلة في قوات جهاز الأمن التي تم تجهيزها وتعبئتها لوأد أيّ تحرك مضاد، وكتائب الظل التي تدين بحسب تكوينها الأيدولوجي بالولاء الكامل للنظام، استماتت هذه القوات في الدفاع عنه بكل قوة وكانت تطلق النار مباشرة على المتظاهرين لكسر عزيمتهم وهي الطريقة التي نجحوا بها في إفشال هبّة ديسمبر 2013 حيث قتلت هذه القوات في أيام قلائل أكثر من مائتي شخص، إلا أنهم هذه المرة تفاجأوا باصرار أكبر وفهم أعمق لمفاهيم الثورة وكانت كلمة السر هي (سلمية سلمية ضد الحرامية).

 

مع استغلال أكبر لوسائل التواصل الإجتماعي التي أبدع الثوار في إدارتها، فكان أي فرد في الشارع مراسل ومصور للثورة، وبدأت تظهر صدقية سلمية الثورة مقابل بربرية ودموية قوات الأمن، حتى أنهم كانوا يغطون وجوههم الكالحة البائسة خشية انكشافها للثوار. دمّر هذا الإعلام الموازي مصداقية الإعلام الرسمي وكشف موالاتها العمياء للنظام، كما أخرس أبواق النظام البائد لدرجة أن مناصري النظام كانوا لا يجرؤون على التعليق في الأحداث. واستمرت عمليات الكر والفر طوال هذه الفترة على مدار الساعة صباحاً ومساء دون يأس أو تراجع في كل أحياء مدن العاصمة المثلثة (أمدرمان، بحري، والخرطوم) وكان لا يمر يوم واحد دون تظاهرة هنا أو هناك. وآخيرا في الحادي عشر من إبريل تم تحقيق مراد الشعب وشعاره (تسقط بس)، وسقط الذي قال يوماً أنّ (الفيس بوك) لا تُسقط حكومات.

 

إن الثورة السودانية التي قدمت هذه التضحيات من الشهداء والجرحي في سبيل هدم صنم البشير، يواجه عدواً جديداً يتمثل هذا العدو (العفريت) في المال الفاسد المبذول مقابل اتفاقات أبرمت في جنح الظلام الدامس، وهو لعمري عدو أشرس من كتائب ظل النظام البائد. لكن الذي يؤمن به عامة السودانيين، هو أن السودان ليس مصر حتى يتم تمرير أجندة الثورات المضادة فيها، فمصر تعتمد اقتصادياً وبدرجة كبيرة على الرز الخليجي والمعونات الخارجية من أمريكا وصندوق النقد الدولي، وهو ما ظهر جليا في تبعية الدولة المصرية لداعميها وضياع القرار المصري المستقل.

 

إن السودان بضخامة ثرواته وقوة ثورته النابعة من قلب الشعب السوداني دون تدخل من أحد، ومتدثرة بتاريخ تليد في اقتلاع دكتاتوريات سابقة، وبشبابه الذي هزم كل آلة الجبروت والقمع التي عملت على القتل والتنكيل والتشريد، وقبله هزم الاعلام الحكومي الضلالي الذي زين لزبانية النظام سوء أعمالهم فظنوا أنهم بإجرامهم هذا يحسنون صنعاً، إن هذه الثور بهذه الصفات واعية اليوم من أي وقت مضي ما يحاك ضدها من فلول النظام البائد ومن أرباب الثورات المضادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.