شعار قسم مدونات

النازحون في اليمن.. فصل آخر من فصول مآسي الحرب

blogs اليمن

في طقس بارد ممطر، وعلى رصيف أحد الشوارع الكبرى وسط العاصمة اليمنية صنعاء، طفلان يفترشان الأرض، يُغطيهما رداءً متهالك لا يغني ولا يسمن من برد، يحتضن الطفل الأكبر، الذي لا يتعدى عمره الـ10 أعوام، أخاه الأصغر بإحدى يديه، ويُمسك بيده الأخرى قطعة كرتون فوق رأسه، ليحتمي بها هو وأخاه من زخات المطر والبَرّد المنهمرة بغزارة. يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يحمي أخاه الصغير من سهام المطر المتساقطة من السماء، يضمه إليه بشدة محاولاً منحه كلما في جسده من حرارة، علها تساعده على الإحساس بالدفء والأمان.

رأيت في عينية حنان الأم، وفي يديه قوة وصلابة الأب، كيف لطفل بهذا العمر أن يحتمل كل هذا العناء!.كيف لمجتمع أن يصبح يوماً ما سوياً وأطفاله يعيشون مرحلة طفولتهم بهذا الشكل، كيف لقادة هذا البلد أن يهنئوا ليلة بالنوم وهم من تسببوا بكل هذا العناء!. وفقاً لتقرير “رصد الأثر المدني” لعام 2018 الذي قامت بإعداده المفوضية السامية لشوؤن ألاجئين، تم الإبلاغ عن أكثر من 4800 حالة وفاة وإصابة بين المدنيين على مدار العام المنصرم، وهو ما يعني وقوع 93 ضحية في كل أسبوع. وأشار ذات التقرير إلى أن الأطفال يمثلوا خُمس الضحايا المدنيين الذين تم تسجيلهم (410 حالة وفاة و542 إصابة) كل هذا فقط خلال سنة واحدة.

في ظل استمرار هذه الحرب ازداد الأغنياء غِنى، وازداد الفقراء فقراً واختفت فيما بينهما الطبقة الوسطى تماماً. كِلا أطراف الصراع الدائر اليوم في اليمن استفادت ولا زالت مستفيدة من استمرار القتال

المؤلم في الأمر أن 30 بالمائة من هؤلاء الضحايا المدنيين، بحسب التقرير، قد قتلوا وجرحوا إما داخل منازلهم، أو أثناء سفرهم على الطرقات، أو أثناء العمل في المزارع وفي أعمالهم التجارية المحلية، أو في الأسواق والمواقع المدنية الأخرى. ما أضطر الكثير من العوائل والأسر التي تعيش في مناطق الصراع إلى ترك منازلهم وكل ما يملكون، هرباً من الموت وبحثاً عن حياة اعتقدوا أنها ستكون آمنة. وفي محاولة منهم على الحفاظ على حياتهم، افترشوا الشوارع والأرصفة، وأكلوا من مخلفات القمائم، فتمكنوا من إبقاء أجسادهم، إلى حد ما، على قيد الحياة، لكن أرواحهم فارقت الحياة منذ ذالك الوقت الذي فارقوا فيه أرضهم التي ولدوا عليها، ومزارعهم التي ترعرعوا من خيراتها، ومنازلهم المليئة أركانها بالذكريات، ذكرياتهم مع أبائهم وأجدادهم، ذكرى زواجهم والحب والمودة فيما بينهم، ذكرى أول مولود رزقوا به….، نزحوا تاركين كل ذالك للحرب وتُجارها.

في الآونة الأخيرة تحولت شوارع صنعاء إلى ما يشبه الملاجئ المفتوحة تكتظ بالمشردين المتقطعة بهم السبل من كل حدب وصوب. فقد أدى القتال المتجدد إلى نزوح أكثر من 32000 يمني في أقل من شهرين، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشوؤن ألاجئين، ليضافوا إلى أكثر من 3 مليون شخص الذين نزحوا من قبل بعد أن أُجبروا على الفرار من منازلهم والذين يواجهون حالياً ضروفاً قاسية جداً. فقد تسببت أربعة أعوام من الصراع في اليمن بأكبر أزمة إنسانية في العالم، مخلفة أكثر من 14 مليون شخص ممن هم بحاجة ماسة للحماية، ومجبرة حوالي 15بالمئة من السكان (4.3 مليون شخص) على الفرار من منازلهم. ويشمل ذلك 3.3 مليون شخص ممن لا يزالون في عداد النازحين في جميع أنحاء البلاد، إضافة إلى مليون شخص ممن حاولوا العودة إلى ديارهم.

أصبحت ظاهرة بيوت ومنازل الدكاكين منتشرة في كل مكان، فلا يكاد يخلو حي من أحياء العاصمة صنعاء من عائلة مكونه على الأقل من خمسة أشخاص يعيشون في دُكان، مساحة أغلبها لا تتعدى الـ 5.7 متر، غرفة واحدة في أحد أركانها المطبخ وأحد أركانها الأخرى الحمام، لا يوجد فيها نوافذ ولا منافذ للتهوية، يضطر ساكني هذه الدكاكين لفتح الأبواب طول الوقت ليتمكنوا من الحصول على التهوية اللازمة، يعيشون في أماكن أقل ما يمكن القول عنها أنها تشبه إلى حد كبير زنازين السجون. وهؤلاء محظوظين بالنظر إلى باقي النازحين الذين لم يجدوا حتى هذه الدكاكين، وهم كُثر، بسبب عدم تحمل كُلفة إيجارها الشهرية، وتحولت الجسور والجولات وما تبقى من الحدائق العامة إلى بيوت ومنازل لهم، إن صح أصلا أن نطلق عليها منازل!

في ظل استمرار هذه الحرب ازداد الأغنياء غِنى، وازداد الفقراء فقراً واختفت فيما بينهما الطبقة الوسطى تماماً. كِلا أطراف الصراع الدائر اليوم في اليمن استفادت ولا زالت مستفيدة من استمرار القتال، بل أصبحت مصالحها مرتبطة ببقاء الوضع كما هو، يعتاشون كالطفيليات على مصائب ومآسي هذا الشعب المطحون، يحفرون له القبور ويبنون لهم القصور.

ويبقى دائماً الخاسر الوحيد من كل هذا الصراع هو المواطن اليمني البسيط، الذي لا ناقة له ولا جمل من كلما يحدث اليوم، وجُل ما يتمناه أن يتوقف القتال، ليتمكن من العودة إلى منزله الذي أجبر على تركه، وتنتهي الحرب، لينتهي معها كابوس النزوح هذا الذي استنفد مخزون الكرامة التي طالما عُرف بها الشعب اليمني!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.