شعار قسم مدونات

جورج لوكاتش.. رجل الأدب والتاريخ

blogs جورج لوكاتش

عندما أصدر المجلس الأعلى للثقافة بمصر سنة 2014 كتاب الرواية التاريخية للفيلسوف المجري جورج لوكاتش في نسختها العربية التي تولى الدكتور صالح جواد الكاظم ترجمتها، قال الكاظم في معرض حديثه عن هذا الكتاب: إنّ مع ازدياد الوعي بالحاضر، يزداد الاهتمام بالتاريخ، بوصفه خلفية الحاضر أو تاريخ الحاضر. وعلى ضوء هذه المقولة للدكتور الكاظم، سنحاول في هذا المقال طرح مقاربة فكرية لواحد من أكثر الفلاسفة إثارة للجدل في القرن العشرين ألا وهو جورج لوكاتش الذي يعرّفه النقّاد بالماركسي الغربي، وهذا من خلال البعد السردي في علاقته بالجانب التاريخي ودور الأيديولوجيا في ذلك.

 

ولج جورج لوكاتش (1885 – 1970) العالم الفلسفي من خلال كتابه الأوّل الروح والأشكال، ليظلّ بعدها وعلى أكثر من خمسة عقود يقدّم للمدوّنة الفلسفية العالمية نتاجات لعلّ أبرزها كتابه الضخم أنطولوجيا الوجود الاجتماعي الذي توفّي قبل ان يتمّه. وقد قدّم لوكاتش طيلة حياته الفلسفية ارهاصات فكرية مختلفة وثرية قاربت في مجملها تاريخ الأدب وخاصّة السرد كالرواية والأقصوصة. ولعلّ كتابه الشهير هيغل الشاب، الذي ضمّنه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي فيما بعد في كتابه موت الإله، يعدّ انزياحا تاريخيا في طريق الفكر الفلسفي لما صدح به لوكاتش من رؤيته لهيغل وللتاريخ وللأدب.

 

فالمتبصّر في كتابات لوكاتش يلحظ أمرا جوهريا في محصّلة كتاباته وهو مأسسة الواجهة الفلسفية من خلال تطويرها واستلهامها من الإرث السياسي اللينيني، فهو لم يخف رفضه المبدئي لرؤية الماركسية الأرثوذكسية للفن والأدب عبر الدعوة إلى لزوم مراجعة شاملة لدور الطبقة السياسية الماركسية في نحت الوعي عند مختلف طبقات المجتمع. فالرؤية التاريخية والأدبية التي آمن بها لوكاتش تقوم بالأساس على العناصر الفنية في مجمل جوانبها دون اغفال ربطها بالوازع الاقتصادي الذي يمثّل قطب رحى القول في الوسط السياسي العام. وفي مرحلة ما من حياة لوكاتش الفلسفية، ظلّ عقله كامنا في تفاصيل علاقة التاريخ بالأدب وخاصّة الرواية فكان يسرد للتاريخ ويؤرّخ للسرد. فهو يؤمن بأنّ الفن هو نتاج طبيعي لما يؤول إليه الوضع الاقتصادي والسياسي. وقد تبنّى لوكاتش طويلا مبدأ الاستقلال الثقافي عن الماكينة السياسية والاقتصادية، فلم يكن يثيره المثقّف المثالي حسب باندا ولا المثقّف العضوي حسب غرامشي، فالمثقّف الحقيقي حسب لوكاتش هو من يقف بثبات في مواجهة التاريخ بالأدب ومواجهة الأدب بالتاريخ.

 

جادل لوكاتش في تسريده للتاريخ في فكرة وجود جوهر كلّي للوجودية، وقد رفض هذا رفضا قطعيا ذلك أنّه يرى الوجودية قائمة بالأساس على فكرة العدم في منهجها. ومن داخل الرؤية الأدبية لتاريخ الوجودية كمنطق فكري

فما أنتجه جورج لوكاتش حول رؤيته للأدب وخاصّة الرواية ومنها الرواية الأوروبية على وجه الخصوص، هو تصنيفه لها على اعتبارها انّها ملحمة بورجوازية أفضت إلى تشيئ المجتمع الصناعي الأوروبي وذلك عبر سياقات تاريخية مختلفة مهّد لها الفكر الأيديولوجي. فمثلا حمل لوكاتش لواء الرواية التاريخية ليس ككتاب فحسب بل كنظرية سيكولوجية جمعت الرواية والتاريخ في سلّة واحدة عنوانها الفنّ. وقد برهن على طرحه ذاك من خلال استناده إلى الفيلسوف الألماني هيغل من جهة وتحديدا مفهوم الديالكتيكية المادية في التحليل الاجتماعي للطبقات عند كارل ماركس من جهة أخرى في رؤية تاريخية وأدبية صرفه. لينتهي في الأخير إلى مقارعة النقّاد بأطروحته المثيرة كون أنّ العملية السردية ليست سوى ملحمة البرجوازية التي صعدت فوق خشبة مسرح التاريخ في أعقاب النهضة ولقد اختار لوكاتش خيار الوقوف في وجه الفلسفة الوجودية كمبدأ كوني وانساني خاص، وقد دخل مرار وتكرار في حوار مع فيلسوف الوجودية الفرنسية جون بول سارتر، وذلك حول انتقاد ساتر للمدرسة الماركسية في علاقتها بالذات والمجموعة.

 

جادل لوكاتش في تسريده للتاريخ في فكرة وجود جوهر كلّي للوجودية، وقد رفض هذا رفضا قطعيا ذلك أنّه يرى الوجودية قائمة بالأساس على فكرة العدم في منهجها. ومن داخل الرؤية الأدبية لتاريخ الوجودية كمنطق فكري، آمن لوكاتش من صميم الراهن السياسي آنذاك، أنّ الإنسان هو بؤرة البحث الدائم عن الأشياء، فهو الذي ينطلق منها ليعود لها. ولهذا تكمن المشهدية التاريخية للأدب عند لوكاتش في ملكة النفي والرفض لكلّ ما هو مسلّم به سواء من اكراهات الدين أو الأخلاق أو العادات والتقاليد… حيث أن الإنسان وفقا للسردية التاريخية هو جوهر الوجود، بينما لا يحدّد الأدب ما هو الوجود بل يكتفي بالحديث عنه. ويتبنّى لوكاتش فكرة أنّ الأدب (بخاصّة الرواية) والتاريخ ما هما سوى استمرار عقلاني للفينومونولوجيا بما هي تصميم اجتماعي يصوّر الحالة السوسيولوجية التي تعكس أزمة الإمبريالية، ناهيك أنّه يقدّم الإنسان كضحية محظوظة لتداخل الموضوعية مع الذاتية. وقد مهّد تاريخيا وأدبيا لضرورة إعادة وضع الإنسان في مكانته الحقيقية من خلال الوعي الحقيقي باثنينيته الميتافيزيقية أي الروح والجسد.

 

بين تسريد التاريخ وتاريخية السرد في جوهرها الأدبي، يكاد يجزم لوكاتش بكون الرواية على هيأتها المتعارف عليها الآن، كانت قد تبلورت شكلا ومضمونا في المجتمع الأوروبي الحديث ببعديه التاريخي والجغرافي، فهي من وراء ذلك تحمل في تفاصيلها مخاضا جدليا يجمع بين الدال التاريخي والمدلول الأدبي من خلال التموضع المجتمعي المنصهر في مفهوم القيمة والثيمة. لكنّ لوكاتش في مجمل أرائه التي اهتمت بتفسير أسباب نشأة فن الرواية بين جنسها السردي وتموقعها التاريخي، كانت قد وصلت إلى حالة من التبذير اللغوي والترف السردي جعل منها واجهة لتصوير الواقع في أشكال مختلفة.

 

في الختام، نشير إلى أنّ لوكاتش حاول جاهدا أن يبيّن أنّ الحضارة قد قطعت أشواطا مهمّة من التقدّم والنجاح، وذلك كونها حتّمت على الإنسان أن يعترف للتاريخ وللفنّ وللأدب بمدى قصوره عن إدراك فهم الحقيقة الكامنة في هذا العالم… فلوكاتش الذي نشأ بين الأدب والتاريخ لا يخفي أنّ الحضارة تمرّ بمأزق وهذا ما شاطره فيه الرأي المفكّر هيبرماس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.