شعار قسم مدونات

أهمية العدالة الانتقالية في الحالة السودانية.. نماذج أفريقية

blogs السودان

يمر السودان هذه الأيام بمنعطف تاريخي مهم للغاية، إذ يتنفس السودانيون هذه الأيام الصعداء بعد سقوط أحد أعتى النظم الدكتاتورية في القرن الواحد والعشرين. التعبير عن الحرية قد يتجاوز الحد المعقول أحياناً فتنقلب الأمور رأساً على عقب. لذلك فإن البلدان التي مرت بتجارب من الظلم جراء حكم الأنظمة القمعية المماثلة أو الحروب الأهلية في أفريقيا طبقت نظام العدالة الانتقالية لتجنيب البلاد من ارتدادات التعبير عن الحرية الزائدة. من أبرز هذه البلدان جنوب أفريقيا ورواندا باعتبارهما مرا بتجارب مريرة من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. أنظمة أخرى لم تطبق العدالة الانتقالية فراحت شمار في مرق ولم يصلح أمرها حتى اليوم. هناك بلدان إفريقية أخرى مبرت بنفس التجارب ولكن قد لا يسع المجال للتطرق لها.

 

العدالة الانتقالية هي حزمة من الترتيبات تشمل الشق القانوني، والإجتماعي، والنفسي، والمالي، بجانب تحديد الظلم كممارسة وليس كأفراد أو جماعات. يقصد بترتيبات العدالة الانتقالية امتصاص الغضب الناجم عن الظلم الذي ربما لو سُمح له بالتعبير عن نفسه قد يسبب أضراراً بالغة من ناحية، وتهيئة النفوس والارتقاء بها نحو الوضع النموذجي الذي يتطلع إليه المجتمع بكل شرائحه من ناحية أخرى. سنتطرق في هذه المدونة إلى البلدان التي طبقت العدالة الانتقالية وسبب نجاحها في الانتقال إلى وضع مستقر شهد تنمية مستدامة وازدهار بعد طي صفحة الماضي الكئيب، وكذلك البلدان التي فشلت كلياً أو جزئياً في تطبيق العدالة الانتقالية وسبب فشلها في ذلك.

  

الشق القانوني في العدالة الانتقالية ينطوي على إجراء محاكمات عادلة لكل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان وفي السطو على المال العام أو أرتكب جريمة من أي نوع. المحاكمات تكون علنية وشفافة وتوفر فيها كل الشروط الضرورية وفق ما نصت عليه المعاهدات الدولية. والقصد من هذه المحاكمات هو إنصاف المظلومين ورد الحقوق إلى أهلها وتأكيد هيبة القانون. لأنه بدون هذه المحاكمات سيلجأ الناس إلى أخذ حقوقهم بأنفسهم وبطريقتهم الخاصة وربما أدى إلى ظلم أشد أو ربما راح ضحيتها أبرياء لا ناقة ولا جمل. جنوب أفريقيا أجرت محاكمات علنية لعهد الفصل العنصري وشكلت محمة خاصة للنظر في التظلمات بحيث كل من صودرت ممتلكاته ويملك مستندات تفيد ملكيته أعيدت إليه. كما شكلت أيضاً لجنة الحقيقة والمصالحة لإجراء مصالحة مجتمعية لإزالة الغبن. وأما رواندا فقد أنشأت محكمة دولية للبت في جرائم الإبادة الجماعية وكان مقرها في أروشا بجمهورية تنزانيا.

   

  

وأما الشق الاجتماعي فيتمثل في تطبيق ما يسمى "التمييز الإيجابي". والمقصود به ردم الفجوة التي حدثت نتيجة سياسات النظام السابق فمثلاً في التوظيف وفي عقودات العمل تكون الأولوية للمجتمعات التي وقع عليها الظلم. يعرف ذلك في السودان بالتهميش بحيث هناك مناطق بعينها لا يحس سكانها بأنهم جزء من الدولة لأنهم لا يرون أنفسهم في واجهاتها. فبالإضافة إلى التهميش في الوظائف الحكومية يشعر ذوي البشرة الأفريقية الداكنة أنهم محرومون حتى من الظهور في التلفزيون الرسمي كمذيعين أو مقدمي برامج. وربما كانت هذه السياسة السبب وراء رواج كريمات البشرة في السودان خلال العقدين الأخيرين من حكم الإنقاذ. لذلك فإن التمييز الإيجابي يعالج هذه المشكلة من خلال تطبيق سياسة سكانية تشترط إظهار كل السحنات التي تمثل مختلف شرائح المجتمع في أي واجهة يظهر فيها أكثر من وجه. فمثلاً السياسة السكانية التي طبقتها جنوب أفريقيا في هذا الشأن تفرض توازناً في إبراز الوجوه التي تشكل دولة جنوب أفريقيا وهي السود والبيض والملونين. وأما في رواندا فقد حرمت الدولة السؤال عن القبيلة في سياق العمل الرسمي أو بما يوحي بالتمييز ويعتبر ذلك جريمة.

 

وأما الشق النفسي فيعنى بإنشاء مراكز للعلاج النفسي وإعادة تأهيل ضحايا الانتهاكات. ذلك لأن الانتهاكات أحياناً تكون جسيمة تترك آثاراً بدنية ونفسية مستديمة مما يتطلب تدخلاً منظماً بغية تأهيل الضحايا ودمجهم في المجتمع ليمارسو حياتهم الطبيعية، بالإضافة إلى إزالة الضغائن في نفسوسهم تجاه جلاديهم. التجربة الجنوب أفريقية في هذا المجال تعتبر رائدة، حيث كانت لجنة الحقيقة والمصالحة تجري مصالحة بين الضحية والجلاد فتحصل مواقف صعبة ممزوجة بالكاء والحزن والفرح والتوتر، ولكن في نهاية المطاف يحصل تصافي وينصرف الكل لحاله.

 

وأما الشق المالي أو المادي فيقصد به تعويض الضحايا مادياً حتى يستطيعوا الانخراط في الحياة بصورة طبيعية. هناك قرى في دارفور أبيدت عن بكرة أبيها، مات منهم الكثيرون والباقون يعيشون حياة بائسة في معسكرات النازحين في أطراف المدن. ولم يكن الوضع في جنوب كردفان (جبال النوبة) أقل سوءً إذ كانت طائرات الانتينوف الحكومية تقصف القرى الآمنة مما اضطر الأهالي إلى العيش في كهوف الجبال. هذا فضلاً عن المئآت من خيرة أبناء النوبة المتعلمين الذين أخذوا من بيوتهم من قبل السلطات الأمنية ولم يسمع عنهم خبر والبعض منهم وُجدوا جثثاً هامدة. ما يعانيه السوريون من نظام بشار الأسد اليوم عانى منه قبائل "الزرقة" (الأفريقية) في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق من نظام البشير. المشكلة أن الإعلام كان بعيداً عن هؤلاء. هناك آلاف ممن فقدوا أطرافهم أو يعيشون عائهات مستديمة. هؤلاء جميعاً بحاجة إلى تعويض مادي يمكنهم من تجاوز الماضي بمراراته واستئناف حياتهم بأمل جديد.

 

تعتبر العدالة الانتقالية مرحلة مهمة جداً لبناء المستقبل، وتبدأ بتشكيل لجان من الخبراء وإشراك منظمات المجتمع المدني والعمل في تطبيق العدالة الإنتقالية

وأما فيما يتعلق بنبذ الظلم كممارسة، فالمقصود به تحديد طبيعة الظلم المطلوب إزالته ومعالجته في فترة العدالة الانتقالية دون ربط هذا الظلم بقبيلة أو طائفة أو حزب، ودون التعامل مع هذا الحزب أو الجماعة بشيء الريبة. لأن ذلك سيكون سبباً في ارتكاب جرائم عنصرية ضدها بسبب هذا الربط. في الحالة السودانية يواجه التيار الإسلامي العريض هجمة شرسة من القوى السياسية الأخرى بتهمة الوقوف وراء إنقلاب الرئيس السابق عمر البشير وتأييد جرائمه. وقد بدأت تجليات هذه الحملة المعادية للإسلاميين تتكشف بصور متعددة في شكل مضايقات وحتى هجوم على الأفراد المعروفين بانتمائهم وآخرها الهجوم على اجتماع المؤتمر الشعبي يوم 27 أبريل 2019 مما أسفر عنه خسائر مادية والعديد من الجرحي. في الحالة الجنوب إفريقية أدانت العدالة الانتقالية نظام التفرقة العنصرية دون أن يربط ذلك بالأقلية البيضاء التي كانت المستفيد أساساً من نظام الفصل العنصري. وأما في الحالة الرواندية فقد حرمت العدالة الانتقالية أي كلام عن القبيلة، والمقصود قبيلتي الهوتو والتوتسي اللتان ارتكبتا جرائم الإبادة الجماعية.

 

النماذج الأخرى التي لم تمر بمرحلة عدالة انتقالية كلياً هي الصومال وجزئياً الكنغو الديمقراطية. ومع أن الأخيرة تلمست خطاها بعد عناء شديد حتى تحولت إلى ديمقراطية حقيقية بعد قرابة عقدين من الزمان، لم تتعاف الصومال بعد سقوط الدكتاتور سياد بري. القيادة السياسية كانت الضامن للعدالة الانتقالية في حالتي جنوب أفريقيا ورواندا، نيلسون مانديلا وبول كاغامي، بخلاف الصومال التي تنازعت مليشياتها نظراً لعدم برنامج مسبق متفق عليه. ونفس الحالة انطبقت على أفغانستان بعد خروج السوفييت وعلى ليبيبا بعد القذافي.

  

بالنسبة للسودان، لا توجد قيادة سياسية مجتمع عليها كما كانت الحالتان الجنوب أفريقية والرواندية ولكن يوجد وعي شبابي منقطع النظير يقوده تجمع المهنيين في علاقة أفقية مع الشباب والقوى السياسية. العامل المشترك بين هؤلاء الشباب على مختلف قناعاتهم الفكرية هو التطلع إلى دولة ديمقراطية تحكم بإرادة الشعب وتحقق العدالة وتتيح الحريات وتحفظ الحقوق ويخضع فيها الحاكم للمحاسبة. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في عملية التوعية هذه وقد ظهرت قيادات شبابية هميمة تطل على الجمهور من خلال البث المباشر عبر اليوتيوب والفيسبوك فألهبوا الجمهور الشبابي حماساً وفكراً. هؤلاء يشكلون عنصراً مهماً ومكملاً للسلطات الانتقالية في تطبيق العدالة الانتقالية.

   

إذن، تعتبر العدالة الانتقالية مرحلة مهمة جداً لبناء المستقبل، وتبدأ بتشكيل لجان من الخبراء وإشراك منظمات المجتمع المدني والعمل في تطبيق العدالة الإنتقالية التي بدونها قد ينهار الوضع الأمني والاقتصادي ويشل حركة الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.