شعار قسم مدونات

أنت من يصنع حدود وطنه البديع

blogs تأمل

تغوصُ بنا الأيامُ كبحرٍ هائج يسكنه ملايينُ الكائناتِ الشرسة فنبحرُ في دوامةٍ مغمضي العينين خوفًا واستسلامًا لتتملكنا الوحدة بجسدٍ حيٍّ وقلبٍ نابض وصدرٍ يتنفس، وكأنّ الماءَ بطلٌ يُرسي بنا على شاطيء حيث نعيشُ أقدارنا المجهولة ونظنُّ أنّنا نجونا، أقدارًا تستطّرُها المشيئاتُ فنعْلقَ فيها كالسجناء خلف قضبان الغُربة، غُربة النفس والروح والقلب، غربة الأهل والأصدقاء والأحبّة، غربة من تعلّقت أرواحنا فيهم حتى أصبحوا هم الوطن البعيد.

هل الوطنُ أرضٌ شجرٌ أم منزلٌ دافئ؟ هل الوطنُ عيونٌ صدرٌ أم حضنٌ غامر؟ هل الوطنُ جميعُها معًا يا ترى؟ ربّما وهكذا يكتملُ إطارُ الحبّ الذي طالما نحلمُ بتعليقه على جدران ذاكرتنا، وتوضع الصور في أماكنها فيسعد القلب وكأنّه انتصر أخيرًا، انتصار محارب عاد يحمل بندقيته في يديه ويرى الأنوار من بعيد وهو يجري بشغف وقلب مضطرب ينبض بلا توقف، أرى الوطنَ من بعيدٍ في مخيلتي سماءً واسعةً وأقول أنّه حين تحلّق أرواحنا وقلوبنا بأجنحةٍ من حبٍّ وفرح، حينَ نستنشقُ الهواء فتوسع صدورنا ونبدأ بالتنفّس حقًا، حينَ نسمع أصواتًا نألفها وتضمّنا الكلماتُ، حينَ ننظرُ بعيون مشتاقة تملأها الدموع فنبكي وكأنّنا أطفالٌ وجودوا دُماهم بعد عناء طويل.

تقول النساء اللواتي ينتظرن دائما أبناءهنّ الغائبين المعتقلين خلف قضبان الغربة أنّ السعادة في عودتهم أشبهُ ما تكون بضمّ الحياة دفعةً واحدة وكأن الوطن اليوم سعيدٌ وسماءه مشعّة كعقد ارتدته امرأةٌ تزيّنت ليلة فرحها العظيم

مرّ وقتٌ مديدٌ منذ أن قرّرتُ التوقف عن عدِّ الأيام حيثُ أتركُ قلبي في كلّ مرة وأغادرُ مُكرهًا إلى وجهة أخرى بعيدة، فأشتاقُ لتلك العناقات المرهفة بعد الغياب والرحيل، ورائحة الأماكن حين تمتلئ بالأحبّة فتتسلل إلى أنفي وتدغدغها كمُتطفّل صغير أرغبُ به طواعية يضفي شيئًا من الشغب، فأشعر ببساطة من اللقاء بالحرارة التي تدفئُ قلبي وبالماء الذي يروي روحي العطشة والرفقة التي تؤنسُ نفسي التي طالما جلست وحيدة قصّية، لكنّ حالَ موجِ الدنيا متذبذبٌ فيأبى إلا أن يرتفع علوّا يغمُرُ معه أوطاننا الصغيرة ويبعدنا عنها، تلك الذي تعيش داخلنا، فنرممّها بأيدينا في كل مرة من جديدٍ ونمدّها أشواقنا وحنيننا فتبقى صُلبة قوية تتحمّل ببأس شديد.

تبدو أوطاننا حقيقةً كالمنبتِ نخرجُ منها نحملُ دمًا ناضجا مشْبعًا بالهويّة، وكأننا خلقنا لنحبّ هذا المنبت، لنحبّ هذه الأرض ونعشقَ ترابها المقدّس، لنعيشَ حياتنا وندري أنّ العودة أشبه بالولادة مرّةً جديدة، أنّ السماءَ هناك تريكَ غيومًا تسعدُ ناظريك نهارًا ونجومًا تجدها هي وحدها تضيء طريقك الطويلَ ليلاً، وأنّ كلّ ما حولك يناديك بأحرفٍ تقول ها أنا هنا ألف مرّة ومرّة، كيف لنا ألا نعشقَ تلكَ التفاصيل التي خُلقنا عليها؟ أترانا ننسى ولا نحنّ؟ أترانا نحملُ بقايا أجدادنا هباءً ولا ننادي بصوتٍ عالٍ أعيدوا لنا أرضنا والسماء؟ اللعنة على الكلام والمجدُ للأجساد المُقاوِمة رغم ما في الحياة من مشقّة.

أرى إطار العودة لأوطاننا مكتملٌ حينَ نرى من نحبّ، حيثُ نشتمُّ عبقَ الصدور بعد فراق طويل، حيثُ الصباحاتُ الحنونة، الصباحات التي تملأها روائحٌ لا يمكن لنا شمّها إلا من تلكَ الأرض وذاك التراب، حيث تلك الموسيقى التي تُعزفُ على أوتارِ حناجر أصحابِ الأرزاق. أوطاننا حقًا حينَ ننام وندري أنّ غدًا سيأتي مشرقٌ لا محالة، مشرقٌ كإشراقة الوجه الصبوح الملاصق للأمّهات حينَ يرينَ أولادهنّ بعد غياب، أوطاننا حينَ نضحكُ ونرقصُ ونغنّي، حينَ تعود ذكرياتنا الورديّة ونصنع ذكريات جديدة سعيدة قد حضّرنا لها صناديقًا نفرغها حين نشعر بالبؤس والحزن.

أوطاننا ضائعة متى ما نسينا كيف نُفْرِح من يفرّح قلوبنا المرهقة، أو متى ما سمحنا للحزن أن يتسلل إليها وهي مسكن يعيش فيها من نعشق ونحبّ، أن نمتلك شغف الحفاظ عليه وإبقاءه جزءًا يعيش أحداثنا الجارية دومًا، هو وريدٌ حيٌّ في أجسادنا يضخّ دمًا يمدّ بالتعلّق الأبدي، هو قلادة نرتديها على صدورنا ونفخر بها وننشد لها عاشت أوطاننا عاشت. عاشت من نعيشُ تحت سقفها، من نعيش داخل عيونها، من نعيشُ سعداء وسط كل جلبة عارمة تحدث، ونبقى نتذكر أنه مهما بعدنا وقطعنا أميالا سنأمل ونرجو العودة كالأطفال نسير على الأرض ونقبّل التراب ونحظى باللقاءاتِ والأحضان لأوطاننا الأخرى الجميلة.

تقول النساء اللواتي ينتظرن دائما أبناءهنّ الغائبين المعتقلين خلف قضبان الغربة أنّ السعادة في عودتهم أشبهُ ما تكون بضمّ الحياة دفعةً واحدة وكأن الوطن اليوم سعيدٌ وسماءه مشعّة كعقد ارتدته امرأةٌ تزيّنت ليلة فرحها العظيم، تقول وقد ملأتْ السعادة قلبها تعال يا بنيّ وضمني اجعلني أشعر بنشوةِ الحبّ وسعادة العودة إلى ما يعيش داخلي من أرض وطنٍ مفقود. تختلف حدود الوطن والديّار اختلاف أشكال وجوهنا البديعة، كلٌّ منا يكمل الحدود في منظور يصنعه بنفسه بحبّه واختياره، ويضيف التفاصيل التي تجعله يقيم في قلبه للأبد، فماذا لو أتتك تلك التفاصيل كما تهوى؟ أتكتمل حقًا حدود الوطن لديك؟ أغمض عينيك وتخيّل تلك الحدود وأنت تضعها الآن وقد قاربت على الاكتمال والفرح يتسللُ قلبك الصغير النابض..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.