شعار قسم مدونات

كذبة "الخبراء".. كيف يلعب الإعلام بعقول الجماهير؟

blogs - الإعلام

عرض مسلسل (عوالم خفية) للفنان المصري عادل إمام في رمضان 2018 ويحكي عن قصة صحفي معارض يدعى هلال كامل (عادل إمام) يعمل بثوب محقق يسعى لكشف ملابسات جريمة قتل إحدى الفنانات بناء على مذكراتها التي وصلته بالصدفة، ويتطرق المسلسل أيضا إلى عدة محاور فساد بين رجال الفن والسلطة والمال والإعلام وظواهر أخرى داخل المجتمع المصري فيسعى بطله إلى البحث عن الحقيقة -رفقة مجموعة من معاونيه- وتقديمها في مقالاته على جريدة تدعى (نبض الشعب) وعلى قنوات تلفزيونية أخرى.

في إحدى مشاهد المسلسل يزور هلال كامل مقر إحدى القنوات ليجري حوارا، رفقة أحد معاونيه مندور شكري (أسامة عباس) الذي يعتبر لواء متقاعدا بشخصية غبية تفتقر لأدنى معالم التحليل والحنكة وآخر ما يمكن توقعه أنها كانت لواء في الجيش، وعندما هم بطل المسلسل بالمغادرة أخبره صديقه اللواء أنه سيبقى إلى حين، فسأله هلال كامل: (أنت بتبقى هنا ليه؟) ليرد مندور:(هو ما قالولي أنهم بيحتاجوني خبير أمني في مداخلة بالقناة يا هلال)، ليسأله هلال: (وأنت من إمتا خبير أمني يا مندور وانت مبتعرفش غير الأكل والشرب!) ليغادر مقر القناة وهو محتار، فمنذ متى كان صديقه الغبي، ورغم طول مدة صداقتهما، خبيرا أمنيا وكيف سيظهر على التلفاز أصلا بتلك الصفة.

الخبراء هم مجموعة من الناس يتم استضافتهم في الحصص والأستوديوهات على قنوات، وتنشر مقالاتهم في أعمدة الصحف، وتطبع كتبهم دون أي رفص ويتم تسويقهم على أنهم العباقرة المتميزون

تذكرت هذا المشهد وأنا أشاهد إحدى الشخصيات هنا في الجزائر وهو يتقمص صفة (خبير) بكل أنواعها وألوانها، وتغيرها له القنوات التلفزيونية والجرائد مثلما تغير الأم الجوارب لإبنها تماما. ففي المساء استضافته قناة فرانس24 على أساس أنه (محلل سياسي)، وهو قد اعتاد على كتابة مقالات جرائدية صباحا تحت صفة (كاتب صحفي) تارة و(ناقد أدبي) تارة أخرى، الأمر الذي أدهشني لأنني أشاهد برنامجه الذي يقدمه على قناة خاصة كـ(مذيع برامج حوارية)، دون أنسى صفته كـ(روائي) قرأت روايته منذ وقت ليس بطويل!

نتفق أن الإعلام هو السلطة الرابعة في السلم نظريا، لكنه السلطة الأولى من حيث قوته وتأثيره على الجماهير ولطالما عنت الدراسات الاجتماعية به واهتم الكتاب والمنظرون بتأثيره وأهميته. فالإعلام لا يحظى فقط باهتمام العوام بل حتى الخواص من الناس، بل إن كل النخب بكل مجالاتها تريد أن يكون لها مكان فيه انطلاقا من رجال السياسة إلى رجال الأعمال مرورا بالرياضيين ورجال الدين وحتى الأكاديميين. إنه الميدان الذي يريد ان يلعب فيه الجميع، وهو الأرض التي يريد أن يحتلها الكل فمهما اختلفت مشارب هؤلاء فإن كأس الإعلام تجمعهم ومهما اختلفت مذاهبهم فإن دين الإعلام يلم شملهم. فقط لأنه الوحيد الذي يؤثر على الناس بتلك القوة ويوجههم حسبما يريد والأدهى أنه يفعل ذلك دون أن تعرف الجماهير ودون أن تحس به.

في كتابه ذائع الصيت (المثقفون المزيفون) تطرق المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس بإطناب عن ما أسماه ظاهرة (صناعة خبراء الكذب) في أروقة الإعلام بطرق ممنهجة، وعن استحواذ هؤلاء، المدعومين بلوبيات مؤسسات الإعلام، على كافة المنابر لعرض آراء معينة مخطط لها من قبل. ورغم أن المفكر الفرنسي قد تحدث في كاتبه عن الحالة الفرنسية إلا أنه يدرك أن تعميم ما يقوله على بقية الدول لا مفر منه. وقد قسم باسكال بونيفاس هؤلاء إلى 03 أقسام: المنخدعون، وهم الخبراء الذين يرتكبون أخطاء كارثية في تحليلاتهم دون قصد. الخادعون، وهم من يؤمنون بتوجهات ما لكنهم يلفقون لها حجج مزيفة لحشد الناس ورائهم. والأخطر هم المرتزقة، وهم من يدافعون عن شيء لا يؤمنون به ولكن فقط لأن الدفاع عنه يخدم مصالحهم.

الكلام هنا ليس عن تأثير الإعلام فقط، بل عن أحد أشر وسائل هذا التأثير، إنهم من يسمونهم بـ(الخبراء). هم مجموعة من الناس يتم استضافتهم في الحصص والأستوديوهات على قنوات، وتنشر مقالاتهم في أعمدة الصحف، وتطبع كتبهم دون أي رفص ويتم تسويقهم على أنهم العباقرة المتميزون الذين يشخصون كل الأمراض ويملكون أي حل لأي مشكلة في العالم، الذين يملكون عصا موسى وخاتم سلميان والذين لا يجوز لك أن تعترض على ما يقولونه أو تعقب على ما يتحدثون به لأنك لست بمنزلتهم الخارقة هذا ما يقولونه لك، ولأنك أيضا لا تملك المال الكافي والسلطة المناسبة لذلك، وهذا ما لا يقولونه لك.

إن هذه الوسيلة تعد أكثر تركيزا وخطرا لأنها فتحت الباب لنوع أكثر حيلة في الاحتيال على الجماهير والمتمثل في إعطاء صبغة علمية ثقافية خالصة للتوجهات المراد التسويق لها لكي تسهل المهمة على المعطي والمستقبل بجعله أرضا خصبة تقبل البذور المسقاة بماء الخبرة العلمية المشوهة فلا تموت أي بذرة هكذا ولا تتخلف عن أي واحدة عن النمو وهذا ما يضمن استجابة كاملة النسبة لما يريده الإعلام سواء ايصال مخطط معين أو الوقوف ضد تيار فكري معين أو تزوير حقائق محددة حول فكرة او شخص او جماعة بعينها.

مستنقع المرض لن يجف ما دامت منابعه تجري سيكون العلاج الظرفي متمثلا في التطعيم ضد كل ما له علاقة بهؤلاء الخبراء الكذابين ومن يسمحون لهم بالظهور

ورغم أن كلمة خبير تعني في اللغة الأدبية العالم البارع في الشيء والترجمة العصرية لها تتمثل في الشخص الدارس والمدرس لمجال ما والحاصل على الشهادات الأكاديمية العليا فيه، ليس هذا فحسب بل إنه من يجمع بين دراسة المجال دراسة نظرية وتطبيق الدراسات عمليا. ومع تشعب العلوم وكثرة التخصصات -علوم سياسية، علوم اجتماعية، علوم طبية، علوم تاريخية، علوم رياضية ورياضياتية، علوم الإتصال، الإعلام الآلي ..إلخ- ومع التداخلات الموجودة بين الاختصاصات العلمية المختلفة أصبح هذا كله يأخذ من سنوات الإنسان الكثير ليتمرس ويتمرن ويتعلم ثم يكتسب الخبرة اللازمة التي ترفق باسمه تلك الكلمة المكونة من أربعة حروف والتي تسمح له بالخوض في مجال تخصصه وتحليله وتشخيصه لعلاجه، إلا أنه يبدو أن لدى المؤسسات الإعلامية قاموس آخر يعطي الكلمة تعريفا مغايرا ومخالفا فلا تتوانى في توظيف الأمر لخدمة أجندتها بلا ضمير أو محاسبة.

وبغض النظر عن معيار الكفاءة لأولئك الأشخاص الذين تأتي بهم القنوات، وتلبسهم ثوب المجال الذي تريد هي توجيه الرأي العام فيه ثم لا يحتاج الأمر سوى لبدلة رسمية جميلة، مع ربطة عنق أنيقة، وميكروفون صوت ثم يطلق لهم العنان بلا مقاطعة أو تضييق فالعجيب أن جل هؤلاء الذين تتم استضافتهم، دائما ما تتفق أطروحاتهم وحلولهم مع الخلفيات السياسية أو الدينية التي تتبناها وسيلة الإعلام المستضيفة لهم، فلا أذكر أنني وجدت مختصا يقول بعكس قول القناة التي يتحدث عبرها ولا كاتبا يكتب بعكس المواقف التي تبطنها جريدته فلا المعارض السياسي يظهر في التلفزيونات الحكومية ولا الداعية السني في القنوات الشيعية ولا الإسلامي في المنابر العلمانية والحديث قياس.

التكريس الإعلامي لفئة من المثقفين دون غيرهم لا يضر فقط باحترافية العمل الإعلامي ويؤثر على نوعية المادة الإعلامية الخام ولا يكرس لتوجيه الرأي العام بدل إثرائه فحسب، بل إن أثره الأكثر ضررا يكمن في الصورة السيئة التي تعطى عن الأكاديميين والباحثين، وتضرب الموضوعية التي تعد ركنا مهما من الاختصاصية العلمية عرض الحائط، وتجرد العلم والدراسات عن عنصر الحيادية التي إن هي غابت غاب العلم معها. الأكثر من هذا أنه يمارس سياسة الإقصاء ضد المعارضين، ويخلط معايير الكفاءة الأكاديمية عند العامة كما أنه يحرم المجتمع من مخارج ممكنة لمشكلاته وقضاياه فيحد من قائمة الحلول ويحصرها من وجهة نظر إيديولوجية أحادية، ويخل بتكافؤ الفرص بين المثقفين في الظهور وعرض أفكارهم وآرائهم، حتى أنه يضر بمسار التنافس بينهم الذي يعتبر نقطة دافعة مهمة نحو تطور الجوانب العلمية الثقافية وحل المشاكل العملية في شتى الشؤون والميادين.

إن هذا النوع من الأمراض يصعب علاجه واقتلاعه فحرب المصالح التي يعج بها العالم العربي والفوضى الامنية والثقافية مع الاختلافات العقائدية والدينية وحتى السياسية، ومع الثقافة الأحادية للمجتمعات العربي المتسمة بالتزمت والرافضة للنظر في مسلماتها، كل هذا يجعل من التحيز الإعلامي أمرا واقعا بل سلاحا لا بد منه في سبيل الفوز والانتصار ويجعل مشروع الإعلام الموضوعي حلما بعيدا على الأقل في هذه الظروف. ولأن مستنقع المرض لن يجف ما دامت منابعه تجري سيكون العلاج الظرفي متمثلا في التطعيم ضد كل ما له علاقة بهؤلاء الخبراء الكذابين ومن يسمحون لهم بالظهور لأن نيكولاس دافيلا يقول: (في القرن الحالي الذي ينشر فيه الإعلام حماقات لا حصر لها، أصبح الرجل الواعي لا يُعرَف بما يعرفه ولكن .. بما يتجاهله).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.