شعار قسم مدونات

كيف تحول الدين إلى أداة سياسية في السعودية؟

blogs آل سعود

في زمن احتُلَّت فيه دورُنا وديارُنا وبلادنا، صحراؤنا وهضابنا ومرتفعاتنا، ولم تسلم مقدساتنا من التدنيس والتهويد، بل بلغ هذا الاحتقار أن طال رموزنا وأشرف خلق الله نبينا محمد بن عبد الله، بتنا أرخص أهل الأرض ثمنًا ودمًا، وأصغرهم مكانةً وشأنًا، وأكثرهم انقيادًا وانبطاحًا، بعنا البشر قبل أن نبيع حتى الحجر، وما زلنا لم نستفد من الدرس، ساءت الأحوال وانعدم الأفق والمآل، وما زلنا كما كنا، علينا اجتهد أعداؤنا (حكّامنا وخاصتنا)، فلم يجدوا أفضل من ضرب مؤسساتنا الدينية، وتسييسها حسب أهوائهم، حفاظًا علينا منهم كما زعموا، وحفاظًا في الحقيقة على كراسيهم منا.

  

جاء ربيع الشعوب ربيعًا مزهرًا تفوح منه رائحة الحرية، وينبت الأمل في كل ربوعه، بعد زمن أظلم وحداه اليأس من كل مكان، لكن سرعان ما انقاد هذا الربيع إلى خريف بائس؛ فالحرية حُرِقَت، واقتُلِع الأمل من جذوره، وأينعت رؤوس الشعوب الثائرة للقتل والذبح والتنكيل. قاد هذا الانقياد الفاجر علماء دين طالما تحدثوا وأَصَّلوا للتسامح والعدل والإحسان والعفو عند المقدرة، قادوا مؤسسات دينية حكمت باسم السلطان لا الدين مقاليد الشعب والرعية. ولم تَعدل ولم تُحسِن ولم تعفُ عند المقدرة، فكان الشعار هو التنكيل والتبرير لوحشية الحاكم المطلقة، بل والذهاب لتقديس أفعاله، لدرجة ذهب فيها البعض لوصف طاغية ضالٍّ مُضِل ووزير داخليته بموسى وهارون، لا بفرعون وهامان.

 

وظلّت المؤسسة الدينية المعاصرة متقلبة بين اختراقٍ مخابراتي أمني مفضوح، أو في تماهن مع السلطة الزمانية بعد تأميم الأوقاف الإسلامية في الدولة الوطنية الحديثة. ولعل تحالف الباطل هذا -أو لك أن تسميه صنع المؤسسة الدينية بتعيين العلماء خاصة السلطان والتمكين لهم، وإسكات البقية إما بالترهيب أو الترغيب-، يعود إلى تأسيس الدولة السعودية الأولى عندما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع محمد بن سعود في عام ١٧٤٤، ليكون البذرة التي استُخدِمَت للزجّ بالدّين في مضمار السياسة وكأنه أدوات دبلوماسية تتبدل وتتغير وفق المصالح التي تراها الدولة.

أدرك إخوان من طاع الله علاقة عبد العزيز بن سعود مع بريطانيا متأخرًا، بل ذهب البعض لتكفيره لأنه ولّى الانجليز النصارى وأخلّ بمبدأ الولاء والبراء أهم ركائز الدعوة الوهابية

قامت فكرة التحالف بين المحمدَين على نَبذ ومحاربة البدع والشركيات متمثلة بالقبور والأضرحة المنتشرة وقت إذ بالجزيرة العربية والدعوة إلى العودة إلى الإسلام النقي الصحيح. لكن هذا الاتفاق لم يكن بمثابة إصلاح ديني بحت، بل كان صفقة سياسية مُستَتِرة خلف شرعية الإصلاح الديني، حيث قضى الاتفاق أن يحمي ابنُ سعود ابنَ عبد الوهاب في نشر أفكاره، مقابل إضفاء المشروعية الدينية على حكم محمد بن سعود في الجزيرة العربية، وليكون هذا الاتفاق ميثاقًا غليظًا، وبطريقة السياسيين المحنكين وُطِّدَت العلاقة بالمصاهرة، فقد تزوج ابن سعود من ابنة ابن عبد الوهاب لتستمر هذه البذرة إلى يومنا هذا.

  

جاء عبد العزيز بن سعود مؤسس الدولة السعودية الحديثة، بعد مئتي سنة من انتشار الوهّابية كفكر إصلاحي في الجزيرة العربية، وسقوط الدولة السعودية الأولى والثانية، ليحيي التحالف القديم بين الوهابية وآل سعود، عن طريق "إخوان من طاع الله" ليعطي نفسه سمة الإمام المصلِح، والمبرر الديني للخروج على الدولة العثمانية، فكانوا ينظرون له على أنه الإمام والقائد لا الـمَلِك والسلطان، وكما وحّد ابن سعود الجزيرة بعد انتهاء الحرب النجدية بعباءة الدين والفكر الإصلاحي، عاد وانقلب بذات العباءة على حلفائه.

  

بدأت معالم الخلاف بين الإخوان أصحاب الفكر المتشدد، الذين مكّن لهم عبد العزيز وكان لهم القائد والإمام، عند أول تصادم للمصالح البريطانية مع فكرة نشر الدعوة ومحاربة الشركيات كأساس لحركة الوهابية، أراد الإخوان من عبد العزيز نُصرة المسلمين في العراق بعد الاحتلال الإنجليزي لهم، قوبل الطلب بالرفض القاطع من عبد العزيز؛ فقد كانت تحكمه معاهدة بحرة، التي كان طرفًا فيها مع البريطانيين، والتي قضت أن يمنع بن سعود الغارات على الحدود الكويتية العراقية.

 

كان عبد العزيز يدرك أن مهمة الإخوان قد انتهت، وأن بقاءَهم سيفسد ما كسبه، وأن الوقت قد حان للتخلص منهم وللمواجهة التي لطالما أجّلها. عمل عبد العزيز بن سعود مع العلماء والقضاة خاصته الذين جمعهم حولَه على تشويه الاخوان وبيان ضلالهم وتشددهم، وجاء مؤتمر الرياض عام ١٩٢٧ ليجمع كلمة النجديين، ولإثارتهم ضد الاخوان المتشددين، فقد خلص المؤتمر إلى خمسة مبادئ كان آخرها أن مسألة الجهاد من مسؤوليات الإمام وحده، وله أن يرى ما هو أصلح للإسلام والمسلمين، كان هذا البند بمثابة الانقلاب على التحالف الذي تعاهد على الدعوة والجهاد لنشر الدين الصحيح حتى تكون كلمة الله هي العليا، ما دفع الإخوان لسؤال عبد العزيز: كيف كان الجهاد مطلبًا شرعيًا عندما كنت توسع مناطق نفوذك، وأصبح غير مقبولٍ عندما تعارض مع مصالح الدولة البريطانية وحلفائها؟ كما ذكر جبران شامية وحافظ وهبة.

 

أدرك إخوان من طاع الله علاقة عبد العزيز بن سعود مع بريطانيا متأخرًا، بل ذهب البعض لتكفيره لأنه ولّى الانجليز النصارى وأخلّ بمبدأ الولاء والبراء أهم ركائز الدعوة الوهابية. "وقد أذاعوا في الهجر أنهم قائمون على الدين وإقامة الشريعة التي كاد يهدمها ابن سعود، وأن ابن سعود طالبُ ملك، ومُوَالٍ للكفار، وشريكٌ لهم في جميع الأعمال" (وهبة،١٩٣٥).

  

استغل الملك فهد حادثة احتلال الحرم من قبل جماعة السلفية المحتسبة، -جماعة جهيمان كما عرفت بعد ذلك-، لتقوية المذهب الذي سيعرف بعد ذلك بالجامية أو السلفية المداخلة

استطاع عبد العزيز القضاء على الإخوان بمعاونة علمائه وحلفائه البريطانيين، ونجح في إعادة تشكيل المؤسسة الوهابية لتخدم مصالحه، ولتكون عباءة يلبسها متى شاء ويخلعها متى شاء، بعد أن اتخذ خصلة الوهابية الأهم: وهي تضليل الآخر أو تبديعه أو تكفيره بإحياء محاربة الشركيات والعقائد الباطنية والأسماء والصفات، وهي حروب دينية انتهت منذ مئات السنيين، باعتبار أن الوهابية هي الوريث الشرعي الوحيد للدين النقي الصحيح، مستمدة شرعيتها المكانية من السيطرة على أهم مقدسات المسلمين مكة والمدينة، وبالتالي يمكن القول أن الوهابية نجحت بجعل أطروحتها هي المرجعية والإرث الوحيدَين للدّين والمنطقة، وسحبت البساط من تحت مرجعيات لها ألاف السنيين كالأزهر والزيتونة مثلًا.

  

وأعاد التاريخ سرد أحداثه من جديد وفق مدرسة المُوَسوس لا المؤسس، لكن هذه المرة في عهد ابنه الملك فهد، تحت مسمى جديد وهو مشروع الصحوة، إذ استغل الملك حادثة احتلال الحرم من قبل جماعة السلفية المحتسبة، -جماعة جهيمان كما عرفت بعد ذلك-، لتقوية المذهب الذي سيعرف بعد ذلك بالجامية أو السلفية المداخلة، استغرق الأمر أحد عشر سنة فقط لبروز هذا المذهب في ظروفٍ مشابهةٍ تمامًا لما حدث سابقًا مع "إخوان من طاع الله"، فعند دخول صدام حسين الكويت، بفخ أُعِد له مسبقًا وضعت الوهابية أمام فتوى لابد من اتخاذها، وهي السماح للقوات الأمريكية بدخول الخليج عامة والأراضي السعودية خاصة، وهنا معضلة تفريط في لب الوهابية نفسها، اذ مست بشكل مباشر عقيدة الولاء والبراء، ويعد مخالفها قد ارتكب ناقضةً من نواقض الإسلام العشر، حيث أن محمد بن عبدالوهاب في كتابه التوحيد جعل موالاة الكفار على قتال المسلمين كفرًا بواحًا وخروجًا عن الملة، وهو أحد نواقض الإسلام العشر.

  

لم تكتفِ لجنة علماء المسلمين بالإفتاء لجواز دخول القوات الأمريكية لبلاد الحرمين الشريفين، بل ذهبت لتكييف المذهب الجديد مع سياسة المملكة في الانفتاح على أمريكا والتمكين لها في المنطقة، فأفتت لجنة علماء المسلمين بتكفير صدام حسين حتى تصبح المعاونة هنا في قتال كافر، وهي مسألة خلافية عندهم ويُنظَر فيها للمصلحة والمفسدة من قِبَل ولي الأمر وحده، ولم يقف الأمر عند ذلك بل عكفت المؤسسة الدينية -كما صنع عبدالعزيز من قبل- في تفسيق وتبديع وتشويه العلماء الذين وقفوا ضد دخول القوات الأمريكية، رغم أنهم خرجوا من أكناف الوهابية نفسها، بل هم أقرب للوهابية التي أخذ أفكارها عبدالوهاب من المدرسة الحنبلية، فأُودِعوا السجون وأُجبِر الكثير منهم على المراجعات بضغط السجن والسجان.

 

ويُفهَم من هذا أن الحرب التي خاضتها المؤسسة الدينية، ليست بين التشدد والوسطية بل هي حرب لتكييف هذه المدرسة مع أهواء السلطان والسلطة السياسية، ولعل عهد محمد بن سلمان يوضح الفكرة بشكل أدق وأكبر، حيث اعتبر أن هذه الرجعية -حسب وصفه- كانت بإيعاز من الغرب ونصرة لهم في حربهم ضد الشيوعية إبان الحرب الباردة، ويريد بن سلمان حسب كلامه أن يعود لما كانت السعودية عليه قبل حادثة جهيمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.