شعار قسم مدونات

التدريس في الجامعات العربية وتحدياته

blogs جامعة

في اليوم الذي تخرجتُ فيه وحصلتُ على درجةِ الدكتوراه بعد خمسةِ أعوامٍ مؤلمة وجهد ورسوم جامعية فلكية، شعرتُ بالسعادةِ والحماس بشكلٍ منقطع النظير. اقتربَ حلمي للانضمامِ إلى احدى جامعاتِ الوطن القطري أو الكبير ومؤسساتِ التعليمِ العالي الموقّرة، سأعودُ قليلاً للوراء، إلى عام ٢٠١٢ تحديدا، كنتُ أعملُ وما زلت إلى الان بأفضلِ مؤسسات القطاعين العام والخاص ودخلي الشهري يعدُّ مجزياً جداً والحمد لله.

   

القصة بدأتْ عندما بدأت بعقد عدد من الدورات التدريبية المهنية المتخصصة في مؤسستي – عندها شعرتُ حقاً أنني أستمتع بالتعليم وقد جعلت من التدريب حينها تجربة ممتعة ومفيدة في نفس الوقت. أردتُ أن أتأكدَ من أن هذا الشعور (شغفي للتدريس الجامعي) لم يكن صدفة. لذلك، تابعت وحصلت على فرص التدريس المؤقتة في عدد من الجامعات المحلية كوني حاصل على درجة الماجستير وامتلك خبرات ميدانية عالية – ولم يكن القيام بوظيفتين بالعمل السهل -فهو عمل مضني خصوصا إذا كنت تعشق مصطلح "إذا عمل أحدكم عمل فليتقنه"، وعليه حصلتُ على كم كبير من الخبرات التدريسية الصفية واللاصفية والاكاديمية – لقد أحببت كل شيء عن الوسط الأكاديمي: الرؤية، الرسالة، الهدف والبحث العلمي واهم ما عشقت هو تحقيق فكرة نقل خبرة ٢٣ عام من المعرفة من الميدان إلى الطلاب وقاعة المحاضرات.

 

كنتُ مؤمناً دائماً أنَّ هناك فجوة بين البيئة الأكاديمية ومتطلبات سوق العمل من حيث التوافق والمهارات (الناعمة والفنية) وذلك نتيجةً لتفاعلي مع حديثي التخرج كموظفين جدد في المؤسسات التي عملت بها والذين يُعتبروا من مخرجات مؤسسات التعليم العالي. وبالفعل قرّرتُ الحصولَ على شهادةِ الدكتوراه وبدأتُ رحلةَ البحثِ عن برنامج وجامعة مناسبة وهذا لم يكن سهلاً كوني أعمل بدوامٍ كامل ومتزوج وعندي أولاد والتزامات ماليّة واجتماعية.

  

تحديات الالتحاق بالجامعات من قبل حديثي حملة شهادات الدكتوراه ليست حكرا على الجامعات العربية فقط، ولكن بشهادة عدة باحثين وخبراء فان نفس الشريحة تواجه تحديات مماثلة في أوروبا وامريكا

استغرقَ البحث عاما كاملا في أمريكا وأوروبا وأستراليا (لا تسأل لما لم أفكر بالجامعات العربية لأنه موضوع كبير ومتصل بثقافة المجتمع والقائمين على جامعاتنا والتعليم العالي بشكل عام) لاستقر على جامعة بريطانية تحقّق عدد من متطلباتي، أهمّها المرونة في الحضور واستخدامِ البحث العلمي كرسالة دكتوراه مع محاضرات في دول مجاورة ورسوم مقبولة بالمقارنة مع الجامعات الأخرى. وبعد رحلة طويلة ووحيدة ومضنية وباهظة الثمن على كل الأصعدة، ناقشْتُ الرّسالة في مقرّ الجامعة في لندن أمام لجنةِ محكّمين ولمدةِ ثلاثِ ساعات. قيل لي بعدها: كنتَ رائعاً ومرحباً بك في عالم النخبة الاكاديمية.

  

كم كانت لحظات التّخرج رائعة وهم ينادون اسمك وأخطاء النطق للأسماء العربية لا تحصى. عدت إلى بلدي وانا متشوق لأبدأ رحلة البحث عن شغفي في التحاقي بهيئة تدريسية. سَخِرَ مني الكثير من أفراد عائلتي وأصدقائي – لماذا أترك وظيفة بأجرٍ مرتفع لوظيفة أقل أجراً – كان جوابي دائمًا "هذا ما أعشق القيام به" إنه ليس عمل ولكن شغف وهدف ورحلة وواجب ومتعة.

 

الآن وبعد مرور عام على حصولي على الدكتوراه، لا يزال يتعذّر عليّ الحصول على ما أحببته وشغفت به بالجامعات العربية. السؤال هنا، لما لا؟ سأناقش بشكل عام وهادف بعض التحديات مع بعض الحلول من وجهة نظري حول الالتحاق بالجامعات العربية كعضو هيئة تدريس رغم امتلاكي لسنوات من الخبرة الميدانية والعملية والفنية والإدارية والتي تُعتَبر مخزون معرفي يستحق الاستفادة منه في العلوم التطبيقية والإدارية، أو على الأقل هكذا اظن.

    

1- للعدالة في الطرح فإن تحديات الالتحاق بالجامعات من قبل حديثي حملة شهادات الدكتوراه ليست حكرا على الجامعات العربية فقط، ولكن بشهادة عدة باحثين وخبراء فان نفس الشريحة تواجه تحديات مماثلة في أوروبا وامريكا وغيرهم من الدول. ولكن بتفاوت واضح لوجودِ خيارات أكبر من الجامعات ومؤسسات التعليم خصوصا إذا امتلك حديث التخرج خبرات تدريسية خلال فترة الدراسات العليا أو درَّس بدوامٍ جزئي فهناك فرص معقولة في الكليات المتوسطة والجامعات التدريسية والتي يُعتَبر البحثُ العلمي ليس من أولويّاتها وتُعرَف اصطلاحا (Teaching Vs Research Universities)

  

2- التحدي الأكبر: نشر عدد معيّن يصلُ لخمسة من الأبحاث الأكاديمية كشرطٍ مسبق للتعيين، واعتبرُ هذا تعجيز لأي حديث تخرج بشهادة الدكتوراه إلا إذا كان محظوظاً جداً. بغضّ النظر عن آليات النشر والدوريات البحثية الدوليّة فأنا لا أبالغ إن قلتُ أنَّ أي دورية أو مجلة بحثية مرموقة قد تستغرق من ١٢ إلى ١٨ شهرا لنشر البحث بعد جولات من الملاحظات والتعديلات والملاحظات المضادة. الغريب والملاحظ أنهُ عند تحليل ودراسة الإنتاج الفكري والبحثي لبعض هذه الجامعات، تجد أنه في أحسن الحالات لا يرتقي لشروط النشر المعلنة من قبل الجامعة لأعضاء هيئة التدريس الجدد.

 

3- المعادلة والاعتراف والتصديق وشرط الإقامة في بلد الدراسة، ويا لها من معايير ضبابية ورمادية ومطاطة وغير منسجمة مع اعتاب القرن الثاني والعشرين وغير عادلة. (علما أنى لم أدرس عن بعد أو عبر التعليم الالكتروني أو المدمج). نستمع للقائمين على التعليم العالي في بلادنا يتشدقون بالمصطلحات التالية: التعليم بلا حدود، التعليم المدمج، الاقتصاد المعرفي، عصر المعرفة، البحث العلمي العابر للقارات، منصات التعليم المفتوح، عصر إدارة المعرفة، الجامعات الالكترونية، استراتيجية الأتمتة، قاعة المحاضرات الافتراضية، وعند وضع هذه المفاهيم للتطبيق، تصطدم بأول موظف في تلك المؤسسات ليقول: هذا للاستهلاك الخارجي والإعلامي.

 

تفتقر معظم الجامعات العربية إلا القليل لما يُعرَف بالجامعات الغربية بالأستاذ الممارس والذي يخصص عدد كبير منهم لكادر فريق التدريس لدعم المسار النظري بالتطبيقي

وفي موضوع متصل، لم يعترف وإلى الآن القائمين على التعليم العالي في معظم دول العالم العربي بالتعليم الإلكتروني أو المدمج أو حتى المصادقة على شهاداته بسفارات معظم الدول العربية. ويأتي هذا بحجج واهية وضعيفة وغير مقبولة متعذرين بعدم الجودة تارّة والتلاعب والمصداقية تارّة أخرى بينما تُخرّج أعرق الجامعات العالمية والمرموقة الآلاف من حامِلي البكالوريوس والماجستير والدكتوراه سنوياً عن طريق التعليم المدمج أو الإلكتروني البحت. وأنا مطلع على أن بعض الدول العربية قد تقترف خطيئة عندما تعتمد شهادات التعليم الإلكتروني أو المفتوح عن بعد لمواطنيها ولا تفعل لجنسيات أخرى بغرض العمل في تلك الدول.

 

إذا كان الاهتمام بالتعليم فعلاً أولويّة هؤلاء فعليهم إيجاد حلول عملية ومنها التأكد من الجودة والمصداقية عبر وضع اليات فعالة خيراً من عدم مواكبة العصر وليس نَسْفِ الفكرةِ برمتها بسبب تجاوزاتِ بعض الجامعات الصوريّة وسذاجة بعض طلابنا أو تجاوزاتهم وكسل المسئولين الفنيين والحكم الجائر والمطلق على من قرّرَ الاستثمار في نفسه وتطوير مهاراته من خلال التعليم ودفع مبالغ كبيرة وجهد ووقت كبير.

 

4- لجان التعيين وعدم الشفافية في الإجراءات وتحديد المقابلات والمحسوبية والتحزبات الغير منطقية والمناكفات المؤسسية والتي تصطف لأجندات شخصيّة ضيّقة ولا تأخذُ مصلحةَ العمل والمؤسسة والتعليم والكفاءة بالاعتبار.

 

5- عدم الأخذ بالخبرات العملية والميدانية اثناء إجراءات اختيار المرشحين لتدعيم منظومة التعليم الأكاديمي بكوادر ممن يمتلكوا خبرات عملية وميدانية وقدرة على نقل المهارات الناعمة كالتواصل والالقاء وتحديات التعامل مع أساليب القيادة المختلفة والثقافات المؤسسية المتنوعة. بينما تعتبر الجامعات الغربية هذا جزء مهم من المنظومة الأكاديمية.

 

تفتقر معظم الجامعات العربية إلا القليل لما يُعرَف بالجامعات الغربية بالأستاذ الممارس والذي يخصص عدد كبير منهم لكادر فريق التدريس لدعم المسار النظري بالتطبيقي وعقد شراكات مع مؤسسات القطاع الخاص للتدريب من خلال الشبكات الكبيرة للأساتذة الممارسين خلال فترة عملهم الميداني.

 

6- عندما بدأت كتابة هذا المقال كنت أودُّ مشاركةَ القرّاء بأزمة يمرُّ بها عدد كبير ومخلص من أبناء هذه الأمة بنيّة خالصة لخدمة أوطانهم ونقلِ المعرفة بمهنيّة ونزاهة للارتقاء بالتعليم والتعلّم فهو ركيزةُ الأمم ومستقبلها، ولكن عند انتهائي، أدركت عمقَ الأزمة التي تمرُّ بها منظومةُ الجامعات العربية ومؤسّسات التعليم العالي بشكل عام والقائمين عليهم والاحتياج لوصفات علاجية سريعة وطويلة الأمد. علما انني أستطيع الحصول وحصلت على عروض وفرص تدريسية بالدول الغربية ولكن هذا ليس ما أريد.

 

الحديثُ يطول ولن أتطرقَ هنا لأساليبِ واستراتيجية إدارة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي واختيار البرامج الاكاديمية ومساقات التخصص ودمج التكنولوجيا في قاعات المحاضرات وتمويلِ البحث العلمي واستراتيجيات مساقات البحث العلمي ودمج مساقات سوق العمل في المساقات الأكاديمية والفنية ومتطلبات ترقية أعضاء هيئة التدريس ونظم الجودة الجامعية والتنافس الغير مفيد بين الأقسام والجامعات العربية على مراكز التقييم الدولية واستيراد التعليم الغربي بلا استراتيجية واضحة وغيرها من المواضيع ربما ندع الحديث عنهم ليوم آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.