شعار قسم مدونات

العدالة والحكمة.. صفات إلهية للبشر نصيب منها!

blogs مجتمع

يقال بأن الدولة نتاج الإنسانية وبأنها تطور طبيعي لحياة الأفراد في المجتمع، وترتب على ذلك النتاج كامتداد بديهي وجود الدول والحكومات، وكان من الضرورة إرساء القوانين وتوفير الأمان والعدل وغيرها مما يشكل أساس الهرم الإنساني للشعوب. يشبه ذلك ما ذكره كونفوشيوس عن الحُكم حين قال بأن الحكومات والوزارات الصالحة تلك التي تكون مهمتها الأولى السعي لتأمين الاكتفاء الذاتي وتوزيع الثروات على شعوبها بنطاق واسع إيماناً منه بأن توزيع الثروة يجمع الشعب بينما تركيزها بيد مجموعة معينة ينعكس سلباً ويشتت الشعوب، وذلك يرجع إلى رؤيته عن المجتمع والدولة فحين سئل الفيلسوف والسياسي الصيني عن مهمة الحكومة، حددها في أمور ثلاثة: كفاية الشعب من الطعام، وكفايتهم من العتاد الحربي، وثقتهم بحكامهم.

 

وحين سئل عما يمكن التخلي عنه أولاً إذا ما حتم الأمر، فأجاب بأن العتاد الحربي هو ما يمكن التخلي عنه أولاً، بينما عندما ُخيّر بين باقي الأمرين الذي يمكن التخلي عن أحدهما أولاً، فأجاب لنتخل عن الطعام فالموت منذ الأزل محتوماً على البشر جميعاً، أما حين تزول ثقة الناس بحكامهم فلم يعد للدولة بقاء. يبدو أن الأساطير لا تكذب، فلم تكن الحكمة السياسية من نصيب البشر بحسب إحدى روايات الميثولوجيا فهي مُلك للآلهه بل كان للإنسان حكمة تساعده للبقاء حياً، ولا أظن أننا نرى حالياً أي أثر لوجود حكمة سياسية مما يؤكد رواسب الأساطير التي حرمتنا إياها بل نرى صفقات سياسية اقتصادية واستغلال سياسي بكثافة مدمرة.

 

ميكافيلي الذي أصبح اسمه نعتاً للدهاء والفساد السياسي فأضحت الميكافيلية صفة لاأخلاقية، هو نفسه يقر بأن الدولة القوية لا يمكن أن تحافظ على كيانها ومنعتها إلا إذا ارتكزت على أساس أخلاقي

ولمداواة ضعف البشر وخوفاً من الآلهة على انقراض النوع البشري زودته بما يكفي من العدالة والحكمة ليواجه بها ما يحيطه من أخطار ولتكون -وهي من صفات الآلهة- المبادئ الأساسية التي تتبعها المجموعات البشرية على أن تُوَزّع على البشر جميعاً حتى تتكون المدن وبالتالي الدول. لذلك ارتبط تطور التفكير السياسي عبر التسلسل التاريخي بالأسطورة وبالمعرفة الإنسانية وكان انعكاساً لانتظام الإنسان ضمن المجموعة البشرية. حتى مع تطور المعرفة الإنسانية ومع مرور الزمن توصلت النظريات الفلسفية كما عند الفيثاغورسيين كإحدى مراحل تطور التفكير السياسي والمعرفي على سبيل المثال إلى نتيجة مفادها أن الدولة تتكون من أجزاء متساوية والعدالة هي المحافظة على هذه المساواة، وبالتالي تبقى الدولة عادلة مادامت المساواة قائمة بين أجزائها.

 

المدينة الفاضلة بمثاليتها المبالغ بها يقر باستحالة تحقيقها أفلاطون نفسه، فهو الذي أخفق في ممارسة السياسة هرباً مما شهدته أثينا من ثورات وانصرف نحو علمه ودراساته ليعد جيلاً من الفلاسفة بعده على أمل أن يحكم هذا العالم الفلاسفة من تلاميذه، وقد أكد تلميذه أرسطو على استحالة تحقيق المدينة الفاضلة إلا أنه وجد أن العلاقة بين الحاكم والمواطن علاقة أحرار وليست علاقة طبقية. على الجانب الآخر من نظريات الدولة والمجتمع والحكم هناك من تبنى نظرية العقد الحكومي أو السياسي وأعطى السلطة للحاكم لكنها لم تكن عند أي منها سلطة مطلقة كونها مقيدة بموجبات الأخلاق المرتبطة بالقوانين الطبيعية ويوجز ذلك الباحث توماس هوبز حيث اعتبر الدولة نتيجة لعقد مبرم بين المواطنين، يتضمن تنازلاً عن حقوقهم، وتعهداً بالخضوع لسلطة الحكم، لكنه وإيماناً منه بعدالة القانون اعتبر أن القوانين التي تصدرها السلطة لا بد وأن تكون عادلة.

 

ميكافيلي الذي أصبح اسمه نعتاً للدهاء والفساد السياسي فأضحت الميكافيلية صفة لاأخلاقية، هو نفسه يقر بأن الدولة القوية لا يمكن أن تحافظ على كيانها ومنعتها إلا إذا ارتكزت على أساس أخلاقي، كما يرى بأن الشعب أكثر قدرة وصلاحية من الأمير في الحكم والإقرار بفساد من يحكمه. الدين والميثولوجيا، والتطور الفطري للمجتمع وبالتالي للتفكير السياسي، والأسطورة، وأبحاث كبار السياسيين والفلاسفة على مر تاريخ الدول، جميعها اتفقت على إعلاء مصلحة أفراد المجتمع الذين تجمعهم ضرورة إنسانية لبقائهم ولحمايتهم في المقام الأول فكان من الثوابت أن تحكمهم قوانين تعود عليهم بمصلحة عامة دون أن تتجاوز الأخلاق والعدالة والنظام، حتى في اللغة أم المفردات والمعاني، فالدولة لغة تشبه ما ذكرته فكرة “هوبز”، إقليم جغرافي مستقل له نظام حكومي.

 

بعد هذه الرحلة الموجزة عما دوِّن وتم بحثه، تُرى أين هي تلك الصفات الإلهية التي وُهبت للبشر من حكام العالم وولاة أمر الشعوب، وكيف أصبحت الدولة عقد احتكار الشعوب وأرواحها واستقرارها بل وعقد وحيد الطرف يملك الحاكم بموجبه حق التصرف بنا، وأين هي تلك الثقة بين الحاكم وشعبه التي تُشيّد بها الدول، ونحن لم نعد نثق حتى بأيقونات الدين أو العلم الذين كانوا للبعض مرجعاً يمارسون حياتهم وفقاً لفتاواهم بعد اتضح أنهم ليسوا إلا أدوات ناطقة بما يملى عليهم، من نصدق إذاً وبمن نثق؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.