شعار قسم مدونات

القائد العربي الذي فتح الشطر الأعظم من فرنسا

blogs غزو

ومن منا يجهله؟ إنه المجاهد الكبير والقائد الشهير عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي، أمير الأندلس (صفر112-رمضان 114هـ)، ولكنني هاهنا سأحاول تسليط مزيد من الأضواء على حياته، وشخصيته، والظروف الذي فرضته واليا على الأندلس، آملا أن يكون في ذلك إضافة إلى معلومات القارئ، حول هذا البطل.

    

من هو عبد الرحمن الغافقي؟

ينتسب عبد الرحمن الغافقي إلى غافق، وهي بطن من قبيلة عك التهامية، ولذلك يقال له أيضا "العكي"، وكان موطن غافق، هو مدينة "اللُحَيَّة" الواقعة على البحر الأحمر، في شمالي مدينة "الحديدة" اليمنية. وشاركت هذه القبيلة، بكثافة في فتوح مصر، والمغرب، والأندلس، وكان منهم أمراء ورؤساء، وكان دارهم معروف باسمهم، في شمالي قرطبة، وإليهم نسب الحصن المعرف باسم "حصن غافق". وكان حصنا حصينا، ومعقلا جليلا.. وفي أهله نجدة وحزم، وجلادة وعزم"، وكان أكثر أهالي شقورة ينتسبون إلى غافق.

   

كان الغافقي، أحد المساعدين للسمح، وعلى يديهما صلحت أمور الأندلس، وعندما استشهد السمح، في طولوشة، في يوم عرفة 102هـ، كان الغافقي، هو الذي أنقذ بقية الجيش، وقاده عائدا به إلى الأندلس

كان عبدالرحمن أحد التابعين الذين دخلوا الأندلس، مع موسى بن نصير، سنة 93هـ، وبعد عودة موسى إلى الشام، في ذي الحجة 95هـ، تولى زمام الأمور أبنه عبدالعزيز، فكان أول ولاتها، وكان الغافقي أحد المقربين من هذا الوالي، ورفض المشاركة في عملية اغتياله التي قيل أن الخليفة سليمان بن عبد الملك، أمر كبار الجند بتنفيذها لأشياء نقمها عليه، ورد على الجنود، الذين دعوه لمشاركتهم في تنفيذ أمر الخليفة، قائلا: "قد علمتم يد موسى عند جميعكم، صغيركم وكبيركم، وإنما بلغ أمير المؤمنين، أمرٌ كُذِبَ عليه فيه، والرجل لم ينزع يدا من الطاعة، ولم يخالف فيستوجب القتل، وأنتم ترون، وأمير المؤمنين لا يرى، فأطيعوني، ودعوا هذا الأمر، ولكنهم أبوا، ومضوا على رأيهم"، وقتلوه وهو يصلي الفجر بمسجد "رفينة" في اشبيلة، وذلك في رجب 97هـ (يناير716م)، مما أدى إلى اضطراب الأمور في الأندلس، عدة سنين، حتى قدم السمح بن مالك الخولاني، واليا عليها، للخليفة عمر بن عبدالعزيز، في رمضان 100هـ، فاستقام أمر الأندلس.

    

لقاء الخولاني الغافقي

ورُوي أن السمح، بعد وصوله إلى قرطبة، سأل من حوله: أَبَقِيَ في هذه الديار أحد من التابعين؟ فقالوا: نعم، إنه ما يزال فينا التابعي الجليل، عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ثم ذكروا له من علمه بكتاب الله، وفَهمِهِ لحديث رسول الله، وبلائه في ميادين الجهاد، وتشوقه إلى الاستشهاد، وزهده بعَرَضِ الدنيا، الشيء الكثير. ثم قالوا له : إنه لقي الصحابي الجليل، عبدالله بن عمر، وأنه أخذ عنه ما شاء الله أن يأخذ، وتأسّى به أعظم التأسي .فدعاه السمح إلى لقائه، وقعد ساعة من نهار، يسأله عن كل ما عنَّ له، فإذا هو فوق ما اُخبِرَ عنه، فعرض عليه أن يوليه عملاً من كبير أعماله بالأندلس. فقال له الغافقي: أيها الأمير، إنما أنا رجل من عامة الناس، ولقد وفدت إلى هذه الديار، لأقف على ثغرٍ من ثُغُور المسلمين، ونذرت نفسي لمرضاة الله عز وجل، وحملت سيفي لإعلاء كلمته في الأرض، وستجدني، إن شاء الله تعالى، ألزم لك من ظِلِّكَ ما لزمت الحق، وأطوع لك من بَنَانِكَ ما أطعت الله ورسوله، من غير ولاية ولا إمارة".

  

وهكذا كان الغافقي، أحد المساعدين للسمح، وعلى يديهما صلحت أمور الأندلس، وعندما استشهد السمح، في طولوشة، في يوم عرفة 102هـ، كان الغافقي، هو الذي أنقذ بقية الجيش، وقاده عائدا به إلى الأندلس، وكانت هذه ولايته الأولى، والتي لم تستمر سوى شهرين، فقد عينت الخلافة عنبسة بن سحيم الكلبي، بدلا عنه، وبعد ذلك غاب الغافقي عن المشهد، حتى سنة 112هـ، وهو العام الذي تم تعيينه فيه واليا على الأندلس.

 

تعيين الغافقي واليا على الأندلس

بعد استشهاد عنبسة، أمير الأندلس، في شعبان 107هـ، تولى أمر الأندلس ستة ولاة خلال خمس سنوات، ويعتبر المؤرخون توالي هذا العدد من الولاة في هذه الفترة الزمنية القليلة، دليلا على الخلل في شئون الأندلس، حينذاك، لذلك قرر والي أفريقية، عبيدة بن عبد الرحمن السلمي (110-114هـ)، تعيين عبد الرحمن الغافقي، أميرا على الأندلس، وذلك في صفر سنة 112هـ، لأنه كان الأصلح، والأكفأ للولاية.

  

وهناك راوية أخرى حول تعيينه، مفادها أنه لما أظهر الهيثم بن عُدي الكلابي، أمير الأندلس (محـرم 111هـ – ذي الحجة 111هـ )، التعصب للقيسية، وبالغ في ممارساته القبلية، تجاه اليمنية، ووصلت هذه الأخبار إلى الخليفة هشام بن عبدالملك، أرتاع لها، فبادر بايفاد محمد بن عبدالله الأشجعي، إلى الأندلس للتحقيق في هذا الأمر الخطير، وفوضه باختيار الأصلح لولاية الأندلس، فحقق الأشجعي في الأمر، وظهر له تورط الهيثم الكلابي، فيما نسب إليه، فعلا ، فقام بعزله عن ولاية الأندلس، والتعزير به وحبسه، قبل إعادته إلى أفريقية، ثم استقر رأيه على تعيين الغافقي لولايتها.

  

وقد أحسن الأشجعي الاختيار، وكان عند حسن الظن به، ذلك أن الغافقي "كانت تجتمع في شخصيته، المقدرة الإدارية، إلى جانب الشجاعة والحنكة العسكرية، مقدرة المنظم المسئول المتحرر من عصبياته، وشجاعة وحنكة القائد الموهوب المتوهج اندفاعا وحماسة". وهكذا عاد الأسد، يتقدم الصفوف، بعد أن أُقصي عن القيادة عشر سنوات، كانت هي الأطول، في حياته، وظل خلالها أسيرا لذكريات السنوات الأولى، من الفتوحات في غالة، منذ ذهب إليها مجاهدا مع السمح، فأحبّها، وتمنى أن يضمها لدولة الإسلام.

  

بعد أن عبر الغافقي وجيشه، جبال البرت بسلام، اخترقت الكتائب الإسلامية مقاطعة غسقونيا، وعبرت نهر الجارون، وافتتحت طولوشة، بوابة الدخول، إلى مقاطعة أكيتانيا (أقطانية)، واستطاع أن يلحق بالدوق أودو هزيمة ساحقة
التحضير لغزو فرنسا

وكانت هزيمة المسلمين في طولوشة، قد تركت أثرا عميقا في نفس عبد الرحمن الغافقي، وجعلته يتحين الفرصة، للعودة لقيادة الجيش ثانية، للثأر من الفرنجة، لما أصاب إخوانه المجاهدين، على أيديهم، في ذلك الحادث الجلل، وليخرس ألسنة أولئك المرجفين، الذين نشروا الإشاعات السيئة، التي تنتقص من شجاعة ومقدرة قواد ذلك الجيش، وبالتالي، المضي قدما بالفتوحات، إلى أقصى مدى يستطيع بلوغه. وهاهي الخلافة، قد ألقت بين يديه بزمام القيادة أخيرا، من دون أن تبدر منه أي بادرة تشي بتهافته عليها، ومن دون أن يتخلى عن وقاره، ونكرانه لذاته. ولم يلبث عبد الرحمن الغافقي، سوى فترة قصيرة، حتى أعلن النفير للعام للجهاد، فتدفق نحوه المقاتلون، من جميع أنحاء الأندلس.

 

في أوائل سنة 114هـ/ربيع سنة 732م، خرج هذا القائد الكبير للغزو، وكان يقود أكبر جيش سيره المسلمون، لفرنسا، منذ الفتح، ولكنه لم يكن مئات الآلاف، كما تزعم الراويات الكنسية، بل ولا حتى سبعين ألفا، كما زعم حسين مؤنس، إنما كان، يترواح بين 15 ألفا و25 ألفا، وفقا للتقديرات الجادة. وبعضها يهبط بالعدد إلى 8000 مقاتل فقط، وهذا هو الصواب، من وجهة نظري. وكان عبور عبدالرحمن وجيشه لجبال البرت، من بابها الأوسط، وهو ممر شيزروا أو رنشفالة، أي من طريق بنبلونة، وليس من طريق برشلونة والساحل الشرقي، حيث سار القواد الآخرون،، ولكنه أرسل حملة بحرية صغيرة من برشلونة، استولت على مدينة آرل، نظرا لأهمية موقعها عند مصب نهر الرون، وذلك لتأمين الجهة الشرقية، من فرنسا أثناء التحرك شمالا.

  

هزيمة أودو دوق أقطانية

وبعد أن عبر الغافقي وجيشه، جبال البرت بسلام، اخترقت الكتائب الإسلامية مقاطعة غسقونيا، وعبرت نهر الجارون، وافتتحت طولوشة، بوابة الدخول، إلى مقاطعة أكيتانيا (أقطانية)، واستطاع الغافقي، أن يلحق بالدوق أودو، دوق هذه المقاطعة، هزيمة ساحقة، على ضفاف نهر دوردوني، أحد روافد نهر الجارون، في جنوب غربي فرنسا، وأن يحطم جيشه شر تحطيم، وأن يفتتح معظم قواعد هذه المقاطعة، وعلى رأسها برديل عاصمة الدوقية، بل وأكتسح النصف الجنوبي من فرنسا كله، من ليون ونهر الرون شرقا، إلى المحيط الأطلسي وخليج بسكاي غربا، ومن جبال البرت والبحر المتوسط جنوبا، حتى نهر الراين شمالا، وحدث ذلك كله في بضعة أشهر فقط.

 

وأما الدوق أودو العنيد، فقد نجا من الموت بأعجوبة، وفر نحو الشمال، ولم يجد، يومئذٍ، أحد يلوذ به، بعد أن أفتتح المسلمون سائر معاقله، وحطموا جيشه، سوى شارل، رئيس بلاط مملكة الفرنجة، عدو الأمس اللدود، فهرع إلى بلاطه، وارتمى في أحضانه، وراح يحذره من الخطر الداهم القادم. وهنا فزع الفرنجة، وهبّت قبائلهم، من أوستراسيا، ونوستريا، وألمانيا، لتذود عن سلطانها، وكيانها، تحت قيادة شارل، هذا الأخير، الذي كان قد استشعر الخطر الإسلامي، منذ حين، ربما منذ حملة عنبسة، قبل سبع سنوات، وهي فترة كانت كافية لأعداد عدته، وحشد بأسه وقوته للقاء المرتقب. وقد زحف شارل على رأس جيشه والتقى بالغافقي وجيشه، بين تور وبواتية، على بعد 100 كم من باريس، حيث دارت معركة بلاط الشهداء، والتي يسميها الفرنجة "تور–بواتية"، في رمضان 114هـ/أكتوبر732. ولأهمية هذه المعركة، واختلاف آراء المؤرخين الغربيين حولها، فقد خصصت لها التدوينة القادمة، بمشيئة الله!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.