شعار قسم مدونات

هذه هي شروط الانتقال المثمر والآمن للحراك الجزائري

blogs الجزائر

من الواضح أن ما حصل إلى غاية اليوم هو تغير جزئي في منظومة الحكم في الجزائر بفضل الحراك، والجزئية هنا بمعنيين، معنى أن المحاسبة تتم بطريقة مجتزأة ومتسرعة، ومعنى أن جزءا من النظام أزيح بينما بقي جزء آخر هو الذي يدير دفة الحكم إلى الآن، والحقيقة الثانية هي أن الحراك الشعبي ما يزال غير راض على الحاصل من تلك التغييرات الجزئية، لذلك هو يراهن على تواصله واستمراريته لتحقيق نتائج أفضل؛ لكن السؤال المركزي هو عن طبيعة "النتائج الأفضل" التي يبحث عنها الحراك؟

 

من المهم التذكير أنّ رفض الحراك للرئيس والحكومة الحاليين من طرف الحراك الشعبي كان لسبب رئيس هو أنه من المستبعد أن تنظم انتخابات نزيهة في ظل حكمهما بوصفهما من ركائز النظام المراد رحيله، لذلك كانت المطالبة برحيل الباءات من أجل تحسين المكاسب، ذلك أن الجمهور يسعى لـ "تحسين شروط نزاهة الانتخابات" باعتبارها العملية التي من خلالها يحصل الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ولتوضيح المقصود بالانتقال هنا لابد من الإشارة إلى محدّدين مهمّين هما:

 

الأول: أن الانتقال الأكثر أمانا يكون عبر عملية انتخابية تحدد مباشرة رئيس المرحلة المقبلة، وتجاوُز فكرة المجالس الانتقالية فضلا عن لا جدوى إيقاف كل شيء إلى غاية تحديد دستور جديد، لأن المجلس الانتقالي سيشكل فرصة سانحة للمنظومة القديمة للعودة في ثوب جديد، أما تجديد الدستور فهو أيضا من مداخل المناورة، ما يجعل من فكرة الذهاب مباشرة إلى انتخاب رئيس الجمهورية المطلب الأمثل للحراك، وذلك لما يحوزه منصب الرئيس في الدستور الحالي من صلاحيات عظمى تصل إلى حد التصرف في تركيبة المؤسسات الأمنية، فضلا عن القضاء والمجالس الوطنية، ما يعني أن انتخاب رئيس سيكفل من حيث المبدأ أفضل ضمانة لإحقاق سلطة الشعب على المسار السياسي لما بعد المرحلة الأولى من الحراك.

 

كان الكلام عن ضرورة الاحتراز والتحفظ في المطالب منطلق أساسا من المحاذير التي تعتري الحراك انطلاقا من كون الحراك ومنذ اللحظة الأولى قد تضمن بالقوة أو بالفعل "الثورة المضادة"

الثاني: هو الحقيقة الاجتماعية والتاريخية التي تتمثل في عدم إمكان تحقق "ضربة قاضية" على كل المنظومة لسبب من شقين: أن النظام له جذوره في الواقع الاجتماعي في حدّ ذاته، حيث الفساد الذي خرج الشعب من أجل إنهائه هو منتشر في العمق الاجتماعي الذي خرج للحراك، وأن التغيير السياسي يتطلب مرافقة مُحايِثة وهو التغير الثقافي، ذلك الذي عبّر عنه بن نبي بـ"القابلية للاستعمار"، فحتى لو افترضنا أن أسبابها النفسية الاجتماعية قد زالت من عند المجتمع نهائيا، فإنه يبقى أن يعايش تجربته الفعلية في ممارسة سلطته على نفسه، وذلك ما يتطلب المحاولة والخطأ والتصويب، أي أن فتوة تجربة حكم الشعب لنفسه بنفسه ستقتضي فترة من التجارب حتى تستوي على سوقها.

 

ومعنى ذلك أن التصور السليم والواضح للتغيير يكون كالتالي:

أولا: أن يتواصل الحراك ومطالبه بالزخم والقوة المطلوبين لتحقيق مطلب أساسي ورئيس هو تحسين شروط الانتخابات لتكون على قدر النزاهة التي بها تكون النتائج النهائية تعبيرا عن الإرادة العامة والتي تتجسد في شكل رئيس منتخب، والواضح الآن أن تحقيق ذلك يقتضي تأجيل الانتخابات المزمعة لكن دون تطويل نظرا للتربصات المحيطة بالحراك داخليا وخارجيا.

 

ثانيا: أن يتواصل الحراك حتى بعد انتخاب الرئيس باعتباره قوة ضغط رمزية ناعمة تحاصر الفساد وتذكر الرئيس بالمطالب، على أن يستحيل الحراك في الأخير إلى ثقافة رقابة دائمة ومستمرة على السياسات العامة للرئيس الجديد وحاشيته ممن تخول له الصلاحيات تعيينه في إدارة الشأن العام، حيث من المهم أن يتم تشريع ذلك في نصوص قانونية ضامنة لحرية الرأي وأن تعتبر مطالب المظاهرات والمسيرات وسيلة من وسائل التشريع بطريقة أو بأخرى.

 

لذلك كان من المهم بمكان الإشارة إلى أن التحفظ على ارتفاع سقف المطالب من جهة، والتذكير بضرورة الحفاظ على الحدود الدنيا لمؤسسات الدولة من جهة أخرى يدخل في باب "الاحتراز" من عدم فقدان مكسب الدولة الذي لابد أن يكون المنطلق لكل تغيير وأن التراجع عن وضع الدولة سيكون بلا شك في صالح القوى المعادية للحراك الثوري داخليا وخارجيا، كما أنه إيذان بنهاية وحدة الدولة التي قد يستحيل استعادتها في الآجال القريبة فضلا عن كونها ستفتت المساعي الوحدوية وتغذي المطالب الانفصالية التي غالبا ما تكون لغتها عنيفة فضلا عن فقدانها الاستقلالية الأهلية، أو بقول آخر الدخول في متاهات لا نهاية لها مفادها أن وضع الدولة هو الأفضل وهو اللبنة الأساس التي إذا فقدت أصبح الحراك يعمل بشكل عكسي لمطالباته الظاهرية.

 

لذلك كان الكلام عن ضرورة الاحتراز والتحفظ في المطالب منطلق أساسا من المحاذير التي تعتري الحراك انطلاقا من كون الحراك ومنذ اللحظة الأولى قد تضمن بالقوة أو بالفعل "الثورة المضادة"، وأن التنبيه إلى حقيقة "لا عقلانية الجماهير" وكذا "شعبوية النخب"، (التي هي حقائق علمية يمكن التفصيل في حقيقتها في مقالات وفرص أخرى لكن لأن الظرف حساس وحرج اقتضى الأمر الاكتفاء بالإشارة)، يأتي من باب مدافعة تلك الثورة المضادة التي تسعى للدفع بالحراك إلى هلامية ومطالب غائمة وغير محدودة، وأن من الحصانة والضمانة للحراك هو التترّس بمطالب واضحة، محددة ومعقولة يتم اللجوء مباشرة بعد تحققها إلى الصندوق، انطلاقا من أن الثورة المضادة أيضا تلعب على عامل الوقت، وإلا فإن تمديد الآجال ولغة اللاحوار مع بقايا المنظومة سيكون في وجه من أوجهه التمديد الذي طالب به النظام لأول مرّة قبل حصول التغييرات داخله.

 

الخطاب المهادن سيجد فرصة للتفاوض ضمن الشروط الفضلى مع المؤسسة الحاكمة للانتقال إلى المرحلة الجديدة التي يكون سيدها الشعب

لذلك كانت الخلاصة أن تتحدّد مطالب الحراك وتتوضّح في مسألة "تحسين شروط نزاهة الانتخابات" كمطلب رئيس وأساسي، على أن يبقى النشاط الحراكي متواصلا حتى يترسخ كثقافة عمل سياسي بديل وداعم للعمل الحزبي والنقابي، لذلك فلا تناقض بين الحراك الشعبي والمسار السياسي الذي على النخبة السير فيه، طبعا على أن تبقى الجسور مفتوحة بينهما، وهو ما لا يختلف عن سنن الثورات التي تتخذ لنفسها شقين ميداني ثوري وسياسي تفاوضي، وأن فائدة الجانب الميداني هي تحسين شروط المفاوضات على المستوى السياسي لصالح الثورة والثوار.

  

لذلك كان الانقسام الحاصل اليوم بين الثوار الميدانيين في الحراك الجزائري، وبين المنادين بالعملية السياسية أمرا مفيدا في أحد جوانبه مع ضرورة أن يبقى انقساما ظاهريا يحفظ الوحدة العميقة للشعب ومطالبه وهو الدخول بالجزائر إلى عهد جديد، وذلك لكون الحراك عامل ضغط مستمر ومتواصل على اللذين يميلون إلى العملية الانتخابية، وكون دعاة المسار السياسي عامل تعقيل للمطالب، لذلك كان لابد أن يحصل التلاحم بينهما في لحظة معينة، وألا يستحيل الانقسام إلى خصومة وتخوين وتعارك يؤدي بالضرورة إلى إضعاف الحراك.

 

والحاصل اليوم هو أن الخطاب العالي السقف مهمّ جدّا في تليين صلابة المؤسسة الحاكمة، وأن الخطاب الذي يميل إلى العملية الانتخابية تكمن قوته في قربه من ذات المؤسسة الحاكمة إلى درجة وجود قنوات اتصال بينهما، وهنا نجد أنفسنا أمام طرفين ممثلين للحراك كل منهما يملك نقطة قوته التي باتحادهما يمكن المضي في تحقيق أفضل شروط الانتقال الديمقراطي المأمول في الجزائر وهما:

أولا: أن الخطابات والمطالبات العالية السقف ستحجّم من تغوّل المؤسسة الحاكمة في فرض خطة طريق المرحلة المقبلة بمفردها، وأنها ستضطر في النهاية إلى التنازلات لصالح الحراك.

ثانيا: أن الخطاب المهادن سيجد فرصة للتفاوض ضمن الشروط الفضلى مع المؤسسة الحاكمة للانتقال إلى المرحلة الجديدة التي يكون سيدها الشعب.

  

لذلك كان على الطرفين، الحراك الشعبي: الغازي للميادين والساحات العامة أسبوعيا أن يرفع شعارات في اتجاه تحسين شروط الانتقال عبر الانتخاب كهدف واضح ومحدد، والنخبة السياسية: المالكة لقنوات الاتصال بالمؤسسة الحاكمة أن تملي شروطها من أجل أن يكون الرئيس المنتخب هو ذلك الذي ترتضيه الإرادة الشعبية العامة وضمان ممارسة الرئيس القادم لكل صلاحياته الدستورية، فضلا عن ضمان عدم الانقلاب عليه على الطريقة المصرية وذلك من خلال تقديم تنازلات للمؤسسة الحاكمة يرتضيها أصحاب الخطاب العالي السقف أنفسهم، وتلك في رأيي أهم الشروط الضامنة لتحقيق انتقال مثمر وآمن في الوقت ذاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.