شعار قسم مدونات

غيفارا وغاندي ومانديلا.. عظماء ولكن كلنا كالقمر!

blogs غيفارا

"يتعطش الرجال إلى المجد أكثر منهم إلى الفضيلة"، هذا بيت شعري للشاعر الروماني جوفينال عندما تحدث عن تلك العلاقة الملتهبة بين الرجل العظيم وتحولاته التي يمر بها فتنصهر روحه وتختلط أفعاله وتمحي تلك الخطوط بين شره وخيره، بين ما يصبو إليه ويمثله للغير وبين ما تتوق له نفسه.

في مسيرته الطويلة وارتقاءه إلى مرتبة المهاتما كان غاندي مجرد محام يتجاهله من علموه في مدارسهم، يطف عليه بعضهم فيعد ذلك منة وشهادة له تعترف بأحقيته في التقدير مثله مثل غيره من مستعمريه الإنجليز، في تلك المتاهة الأولى التي دخلها الرجل من باب المحاماة لتهديه إلى الطريق الطويل من أجل استقلال بلده الهند، الرجل الذي هزم فيما بعد الامبراطورية التي لا تغيب الشمس ويطالب بالمساواة بين جميع الأجناس اكتشفت وثائق كتبها غاندي مستعملا عبارة الزنوج الأقل شأنا، معتبرا في رسالة أخرى كتبها سنة 1904 أن اختلاط الهنود بالأفارقة يهدد تحضر الهنود ورفعتهم، أما في عريضة رفعها للحاكم البريطاني سنة 1895 فقد طالب بتخصيص أماكن للدخول في الأماكن العمومية تفرق بين البريطانيين والأفارقة والهنود.

هذا الوجه القبيح من حياة هذا الرجل العظيم يثير الحيرة فعلا، رجل ينادي باستقلال بلده ويدعم سيطرة الأوروبيين على أفريقيا، فالنظرة ذاتها استخدمها ليوبولد الثاني ملك بلجيكا من أجل إقناع مواطنيه باستعمار مملكة الكونغو وإبادة نصف شعبها بأن أوعز للصحافة برسم الرجل الأفريقي برأس كلب دلالة على عدم اكتمال إنسانيته. العنصرية الفجة التي أراد محوها باعتباره المهاتما المتسامح واستماتة بلده الهند فيما بعد لمحو أثارها من سيرته، لم تمنع هيئة التدريس في اكرا بغانا من إزالة نصب تذكاري له، رفضا لهذا النفاق التاريخي الهزلي. المهاتما وأثناء رحلة ارتقاءه لمرتبة القداسة لم يولي اهتماما كبيرا بالمسلمين إلا مطية للضغط على الحاكم البريطاني ومساومته بهم، ومهادنته المفاجأة للبريطانيين بعيد اعتقال قادة المسلمين دليل على الدهاء السياسي لينفرد بالزعامة لوحده.

undefined

كلنا كالقمر لدينا جانب مظلم، ما أصدق هتلر عندما قال ذلك، القمر هذه المرة رجل أصبح أيقونة الثورة بلا منازع لكل العصور، روبن هود أمريكا اللاتينية، ارنستو غيفارا التشي الحميم لفيدال كاسترو، تشي الطبيب الأرجنتيني الذي جاب دول أمريكا اللاتينية من أجل الفقراء، حتى استقراره في كوبا الثائرة بقيادة الثعلب كاسترو، الذي ما إن علم به حتى رحب به، فانضمامه للثورة سيعطيها بعدا آخر إقليميا، ومهنته ووسامته والكاريزما التي يتمتع بهما جعلته وجها تجاريا متميزا للثورة، وبالرغم من فشله في أغلب المعارك التي خاضها تشي غيفارا إلا أن صورته سوق لها بشكل جيد حتى يبقى وجها لها، وبعد انتصار كاسترو ودخول قواته لهافانا، لم يجد أفضل من الكومندنتي تشي غيفارا ليترأس محكمة الثورة، فشاسته إبان الثورة في ملاحقة الجميع بتهمة التآمر والخيانة كانت داعما أساسيا له من أجل تنفيذ العمل القذر لفيدل كاسترو، الذي ظل يمنيه بقرب خلق المجتمع النقي الذي طالما حلم به تشي غيفارا. الشهادات في هذا الموضوع لم تكن بالكثيرة وأغلبها من معارضي كاسترو، وبعضها يتهم أسطورة الثوار غيفارا بالتعذيب الوحشي للمعارضين، أو الإعدامات الجماعية للمنشقين عن الثورة، المعلومات الضئيلة المتوافرة لا يبدو أنها ستهز صورة الكومندنتي في القريب بسبب الهالة التي تحيط به ونهايته المأساوية في بوليفيا جعلت منه شهيدا رغم أنف الجميع.

العظماء مثلهم الجميع، يكدون ويسرقون ويضعفون وينافقون، والحديث عنهم والتسويق لصورتهم هو الذي يمحو الصورة الكاملة عنهم، والمراكمة المستمرة لفن السيرة الذي غذى الإنسانية لآلاف السنين يغذيها إلى اليوم بالرغم من وضع القواعد الجوهرية للتقصي التاريخي حول حياة بعض الرجال الذين ألهموا شعوبا بأسرها، خاصة الرجال الذين دفعوا ثمن الحرية باهظا.

روليهلاهلا مانديلا الذي سمي لاحقا باسم نيلسون ليسهل على المستعمرين نطق اسمه، دفع من حياته 27 سنة كاملة، ذاق فيها التعذيب والتنكيل النفسي، بسبب إيمانه بقضيته، ودفاعه المستميت عنها، 27 سنة بأيامها ولياليها، جعل ذلك منه أيقونة للنضال والثورة والثبات على الموقف، بعد خروجه من السجن واعتلائه حكم جنوب إفريقيا ضرب مثالا أسطوريا في تجاوز الأحقاد مع الجرائم الإستعمارية وأصحابها، لكن بعد ذلك بفترة ساهم في إصدار قوانين اقتصادية لتزيد الأغنياء ثراء، وتمعن في زيادة بؤس الفقراء، إذ يرى أرنست فولف مؤلف كتاب "صندوق النقد الدولى" أن نيلسون مانديلا خلال توليه رئاسة جنوب إفريقيا، انتهج بمشاركة وزير المالية ومحافظ المصرف المركزى، وبمساهمة صندوق النقد الدولى، سياسة إطلاق العنان لليبرالية الحديثة، وطمأن، ليس النخبة فقط، التى هيمنت على مقدرات البلاد فى الأيام الخوالي، بل والمصارف الدولية والشركات العملاقة أيضا، وفيما خفضت أجور ورواتب العاملين فى الجهاز الحكومى، كانت المشاريع والفئات الغنية تهلل للتسهيلات الضريبية التى حصلت عليها.

undefined

الجانب المظلم لمانديلا لا يتوقف عند هذا الحد بل تساهم مقولة الغاية تبرر الوسيلة في تعزيز رؤيته للنضال الثوري، فهو لم يتورع عن التدرب على يد أكثر أجهزة الاستخبارات مساعدة لنظام الأبرتايد، الموساد الذي كان يقيم معسكرا للتدريب في أديس أبابا في إثيوبيا سنة 1962، ليتقد مانديلا ويقدم نفسه للتدريب، إذ قالت صحيفة يدوعوت احرونوت العبرية إن مانديلا حاول إخفاء اسمه الحقيقي عن الموساد وعرّف نفسه بـ"دافيد موباسيري"، لكن عملاء الموساد تمكنوا من التعرف على اسمه الحقيقي وقاموا بإرسال رسالة للخارجية الإسرائيلية تؤكد لهم أن مواباسيري هو نيلسون مانديلا بنفسه ولفتوا إلى أنه يحمل ميولا شيوعية". وأشارت إلى أن مانديلا ادعى أنه شخص يهودي ويحمل اسم دافيد موباسيري وتمكن من الانخراط في معسكرات التدريب الإسرائيلية في إثيوبيا عام 62 وتدرب على الأسلحة الخفيفة وتصنيع المتفجرات لكنه كشف بعد 3 أشهر من خروجه من المعسكر بعد اعتقاله في جنوب إفريقيا ومعرفة اسمه الحقيقي. ولا يعرف هل كان ذلك قبل أم بعد زيارته للجزائر من أجل نفس الهدف.

هذه الوجوه المخفية بدهاء بين ثنايا التاريخ يجب أن يكون العامل الموازن في المعادلة التي نراها بها هو الحقيقة الجاثمة وراء عدم التصديق والتقديس للعظماء، فالنظرة الوردية لتاريخهم تعتبر السذاجة ألطف تعبير يصفها، والاستماتة في تعظيم الغير هي استماتة في تقزيم النفس، والمجد الذي نحاول بلوغه من خلال استلهام قصص مثل هؤلاء الرجال لن نبلغه مالم نتفادى الظلام الذي صنعوه بأيديهم وأخفي عنا قصدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.