شعار قسم مدونات

نظرات تربوية لأفضل أيام وليالي العام كله

blogs صلاة

لا يختلف إثنين على أن أيام السنة ليست كلها سواء، مما يعني امتياز بعضها عن بعض بأفضلية معينة تجعلها أياما غير عادية لها مكانة خاصة على اعتبار مزاياها ومكانتها العالية، ولِما قد تحمله لنا من خير جزيل ونفع كثير، ومن بين أفضال الله العظيمة التي أنعم بها على عباده تفضيله لأيام محددة تكون فيها التجارة معه أكثر ربحا، لكثرة ما يمكن أن يُجنى فيها من غنائم ذاتية ثمينة، ومن تلك الأيام نجد العشر الأواخر من رمضان التي هي أكمل أيامه، كما أن لياليه ليست كباقي الليالي لأفضليتها التامة على ما سواها خصوصا وأنها تضم ليلة خير من ألف شهر.

 

ونظرا لحاجة المسلم الدائمة إلى انتهاز الفرص والمنح الربانية واستغلالها بشكل جيد لنيل المثوبة والترقي الأخروي، دون إغفال المكسب الشخصي المتمثل في بناء نفس سوية سائرة على جادة الصواب ومتمسكة بالاستقامة الأخلاقية، استدعى ذلك ضرورة النظر إلى العشر الأواخر من زاوية تربوية محضة بعيدا عن الخلفية الفقهية البحتة؛ أي أن هذا الطرح لن يخرج عن إطاره التربوي الصرف، وسيقتصر الحديث على عرض تأملات ورؤى ذات بعد إصلاحي أستقي معينها من الفضائل النفيسة للعشر الأواخر ومقاصدها الجليلة.

 

تقوية الإرادة الذاتية بمجاهدة النفس وتعويدها على الصبر الذي يرتفع منسوبه بشكل مضاعف في العشر الأواخر، بترك التكاسل والفتور، ولجم النفس في هذه الأيام والليالي على ما تعودت عليه في غيرها

لقد شارفت خيام الشهر المبارك على التقويض، واقتربت لياليه وأيامه من التصرم، فقد ذهب من شهر الصوم أكثره وبقي فيه أجَلّه وأخيَره ألا وهي العشر الأواخر التي تعد زبدته وثمرته، فالسعيد كل السعادة من عرف كيف يغتنم هذه الأيام العظيمة، كي يزيد فيها رصيده من صلاح النفس، وترقيته في درجات الصدق والإخلاص والاخبات لله جل وعلا. ومن الفهم الجيد والحزم المحنك أن يكون المسلم نشيطا وله إقبال مليء بالحماس الفعال الذي يشحذ الذهن، ويبعث الهمة العالية، ويذكي العزيمة لاستثمار العشر الأواخر من رمضان في أعمال البر والإحسان؛ حسب ما يناسبه من الطاعات المشروعة فيها، والتي تزرع في النفس أرقى قيم الارتقاء الإيماني والذاتي الذي يعقب الانقياد إلى الله، في ظل ما تعيشه الأرواح في تلك الأجواء الإيمانية المفعمة بالبركات والرحمات التي تزكو بفضلها النفس عما يناقضها، لأنها تكون فيها أقدر على النفور مما يُسيء لها، وتصبح أكثر قربا إلى ما يُحسن لها.

 

لا يعد الحديث الناتج عن النظر التربوي لأمر ما من نافِلة القول أو من الكلام الذي يقال من باب التوجيه والإرشاد المحصور في مكمِّلات القول، وإنما هو من أهم آليات نشر الفكر القويم الذي لا يصح من دون الممارسة الفعلية التي توطد دعائم السلوك العملي؛ وإن كانت منطلقاته في ظاهرها تظهر أن لها خلفيات قولية، لكن في الحقيقة مبتغياتها تتجاوز ذلك، لأنها تهدف بالأساس إلى ما هو سلوكي بالدرجة الأولى. ولتتضح معالم المقاربة التربوية المتبعة في تناول هذا الموضوع يكفي إبراز مجموعة من النظرات التربوية لأفضل أيام وليالي العام كله، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

 

– حث الذات على اغتنام الفرص بتربية النفس الإنسانية على الاهتمام بالمناسبات الدينية السنوية الثمينة التي لا تحصل في العام إلا مرة واحدة، وضرورة اغتنامها في عمل الطاعات القولية والفعلية، لما فيها من تقرب إلى الله تعالى، وتزويد النفس البشرية بالغذاء الروحي الذي يرفع من الجوانب المعنوية عند الإنسان، فتُعينه بذلك على مواجهة الحياة بكل ما تحمله.

 

– أفضل فترة للتغيير الإيجابي عند المسلم هي العشر الأواخر، لأنه يَعبُر من خلالها إلى مراقي الصعود في درجات الإيمان والإحسان ومقامات التزكية العالية، فليس هنالك وقت تكون فيه الاستفادة الذاتية أكثر من هذه الأيام والليالي المباركة التي يسهل فيها إصلاح حال النفس وتجديد إيمان القلب ومراجعة الذات، بعد كبح جماحها وترك عاداتها السيئة، وإدراكها أنها وحدها من تتحمل مسؤولية انحرافها الذي لازمها طوال الفترة السابقة، وأنه يمكن بالوعي الذاتي تعديل ذلك كله.

 

– تَسهل عملية تدريب النفس على القيام بالعمل الصالح بجد واجتهاد في هذه الأيام والليالي خاصة وأنها من أواخر شهر رمضان، ونحن نعرف جميعا أن الأعمال بالخواتيم، والتي ما هي إلا مناسبة للاختبار والتنافس في جودة العمل المنجز لا بكثرته؛ أي أن إتقان العمل فيها أهم من إكثاره وتعداده من دون ذلك، وإعطاء النفس حقها على أكمل وجه في هذه العشر الأواخر لا يمكن أن يتم بانعدام الإخلاص.

 

– زيادة تواصل الإنسان المسلم طيلة أيام وليالي العشر الأواخر مع خالقه العظيم من خلال عبادات مختلفة، لبلوغ مقاصدها من خلال الطاعة الصادقة والامتثال الخالص اللذين لهما بعد نفسي تربوي يمكن الفرد المسلم من تنقية العلاقة مع ربه من كل شوائب الانحراف السلوكي كالنفاق والرياء، لكي تصير النفس صافية وسليمة من كل ذلك.

 undefined

– تقوية الإرادة الذاتية بمجاهدة النفس وتعويدها على الصبر الذي يرتفع منسوبه بشكل مضاعف في العشر الأواخر، بترك التكاسل والفتور، ولجم النفس في هذه الأيام والليالي على ما تعودت عليه في غيرها، الشيء الذي يتطلب حسن التعامل مع الذات التي قد تعرف صراعا داخليا كبيرا في هذه الفترة الزمنية المحددة ليحسن سيرها فيما بعد، وحتى يتحقق المراد من وجود العشر الأواخر التي بفضلها نستطيع أن نصل في النهاية إلى المبتغى السامي منها.

 

– التفاعل الإيجابي مع هذه الأيام والليالي يمكن من تحقيق تغيير حقيقي في أنماط سلوكية عديدة، وكسر روتينها المعتاد بما صلُح من القول والعمل المشتمل لمختلف الجوانب والأبعاد الإنسانية، فتركيز الفرد المسلم على العمل الصالح يمكنه من التجرد عن أهوائه ودوافعه الغريزية التي استحكمت واستقرت وسيطرت على سلوكه، وتخلصه من المظاهر الدنيوية المفسدة لقيمه الأخلاقية.

 

– شمولية العمل الصالح المتقرَّب به إلى الله عز وجل في هذه الايام والليالي المباركة وعدم التخصيص بعمل محدد، فتربية النفس على الإكثار من الأعمال الصالحة المتنوعة له نظر تربوي لا ينبغي إغفاله، فبتعدد العمل الصالح الذي يبتغى به وجه الله ومرضاته يغذي المرء جميع جوانبه النفسية منها والروحية والسلوكية، الأمر الذي يتطلب تهيئة عامة وإعدادا خاصا لتُعدل من خلاله السلوكات غير السوية بعد أن ينهض جانبه القيمي.

 

– التمكن من ترويض النفس بالاعتكاف الذي شرع في هذه الايام والليالي، والذي يعد من أنجع وسائل التربية وأكثرها أثرا، لما فيه من خلوة وانقطاع عن الناس، فكثرة المشاغل الدنيوية تبعد النفس عن تحقيق هدفها السامي الذي خلقت لأجله، لهذا فالعشر الأواخر تتيح فرصة عظيمة للوصول إليه، وفك أسر الذات من شواغلها المادية وكدحها الدنيوي.

 

تلكم بعضا من النظرات التربوية لأفضل أيام وليالي العام كله وليس هذا فحسب؛ فالعشر الأواخر عظيمة وزاخرة بهذا النوع من النظرات، لذا ينبغي الاستفادة مما ذكر للتأهب لها بعزم صادق على الخير والإحسان، وجعل الهمة مصروفة إليها، فإنها عشر بالبركات الوافرة قد حُفت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفت، فأعد لقدومها عُدة، فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلة والليالي المباركة بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على الطاعات والعبادات. ونسأل الله فيها التوفيق إلى حين اكتمالها، والابتعاد عن التفريط والإهمال والتكاسل فيها عن صالح الأعمال، فمنك يا رب السداد والهداية والرشاد في كل جزئية من جزئيات هذه الأيام والليالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.