شعار قسم مدونات

أيُّ عدلٍ يُنتظر عندما يكون الظالم هو نفسه القاضي والجلاد؟!

blogs - مطرقة القاضي

يعد العدل من القيم العليا التي تتحقق بها إنسانية الإنسان الحقة، كما أنه بمثابة القاعدة المتينة لنهوض الأوطان، ويشمل العدل جميع جوانب حياة الفرد ولا يقتصر على جانب دون آخر، لأن وجوده يقتضي أن يعم كل المجالات الحياتية للأفراد، فبدونه لا يمكن أن تُحفظ الحقوق ولا أن ينعم المجتمع بالأمن والاستقرار، وبفقدانه لا يمكن أن تُعمق المبادئ الأخلاقية التي تُبنى بها الشخصية السوية، لهذا يمكن أن نقول أن اللاعدل لا شرعية له إطلاقا ولو بالقانون مهما كانت القوة الظالمة التي تَفرضه، فالعدل وحده من يمنح للمواطنين رغبة شديدة في قبول حق السلطة عليهم، وحتما بغياب العدل يحل الجور والعدوان في محله.

 

إن وجود قضاء نزيه من مظاهر تحقيق العدل وتجسيده في أرض الواقع لا في النصوص القانونية فحسب، وهذا ما هو مُتعارف عليه كونيا في البلدان التي تحترم القوانين الإنسانية وتقدرها وتبرزها بشكل واضح من دون أي تحريف وتلاعب واستغلال لثغراتها، إذ لا محيد للمنتمين للوطن الواحد من التعرض للمساءلة القانونية والمحاسبة النزيهة، لهذا فالقاضي مهما كان حجم القوة التي يمتلكها الظالم مُلزم بأن يكون على مستوى متساو بين المظلوم والظالم وعلى مسافة واحدة بين الضحية والجلاد، حتى لا ينتفي العدل على الأحكام أو القرارات الصادرة عنه في المحاكم.

 

حقيقة القضاء الموجود في البلدان العربية
الثابت أن ذرائع الأنظمة الفاسدة منافية ومجافية للحقيقة وإن احتكمت للقضاء الذي يخدمها في المقام الأول قبل غيرها، في حين أن المواطن المظلوم هو الذي لا حق له أمامها، لأنه في جميع الحالات لا يمكنه أن يكون سوى متفرج

على الجانب الآخر، وللأسف الشديد نجد أن الأنظمة العربية القائمة بكل مؤسساتها لا ترى ما ذكرناه سلفا من حقائق بمنظور سياقها الحقوقي الملزم، بل بما يرضي الإملاءات الخارجية الموجهة لها في الدرجة الأولى ثم يتبعها في الدرجة ما يضمن مصالحها الداخلية ويحققها ولو على ظهور مواطنيها، المهم ألا تسقط هيبتها المتوهمة والمزعومة داخليا والمتجرد منها والمخلوعة خارجيا، لهذا فأغلب قراراتها واختياراتها لا تنبع عن إرادة حقيقية ما دامت الأمور يتحكم فيها من الخارج، فما بالك بقضائها الذي يُتبجح باستقلاليته من طرف من يملكون زمام السلطة في الدول العربية، لكن الكثير مما يقع في دهاليز المحاكم ويعاين في المحاكمات التي تكون فيها الدولة ومن يمثلها أحد الأطراف المتخاصمة ليست سوى تمثيليات تم إعداد سيناريوهاتها مُسبقا، الشيء الذي يُثبت أن كل ذلك يتم على نقيض ما تكون عليه المحاكمات العادلة، ولم يعد ذلك من خبايا الأمور على عامة الناس بل أصبح أمرا مفضوحا يعلمه العوام.

 

إنه لأمر يدعو للقلق الكثير على حاضر ومستقبل البلدان العربية نظرا لاهتزاز ثقة المواطن العربي في قضاء بلده بشكل مخيف، بل وتكون هذه الثقة منعدمة حين يجد نفسه طرفا يتنازع على حقه أمام جهة من الجهات المالكة للسلطة، فصار بذلك الإنسان العربي يحس بالضيم في بلده الذي يتوجب عليه أن يعطيه حقوقه الكاملة ويصونها، بدل أن يستولي عليها ويسلبها بممارسات سلطوية استبدادية مغلفة بمسميات براقة في ظاهرها، لكن من ورائها خداع وظلم كبير لأبناء الوطن الوطنيين أكثر من السياسيين الجشعين الذين يقودونهم، لهذا نجد أصحاب السلطة يتفننون في القرارات الجائرة بحق الشريحة المجتمعية المستضعفة، لا لشيء إلا لتمرير وتطبيق ما يملي عليهم أسيادهم في الخارج ولو ظلما وعدوانا، لأن ذلك ما يضمن لهم الحفاظ على كراسيهم.

 

وقبل الغوص أكثر في عمق الموضوع ينبغي التأكيد على وجود فرق شاسع وبون هائل بين القاضي والجلاد فلكل منهما  أدوار ومهام مختلفة؛ فالقاضي وفقا للعرف والقانون هو جهة الفصل بين المتخاصمين، أما الجلاد فهو أداة غليظة لتنفيذ ما حكم به القاضي، أي أن القاضي له سلطة الحكم والجلاد هو المنفذ للحكم على الظالم (المتهم)، ومن المفترض أن تكون أحكامه بعيدة عن الهوى وما يكنه في القلب، والجلاد بعيد عن التأثير في حكم القاضي، لكن واقع الحال في بلداننا العربية فيه تناقضات عديدة، ومن بين تجليات ذلك أن نجد الظالم هو نفسه القاضي وهو أيضا الجلاد، وإن تعددت الشخصيات لكنها في الواقع تخدم طرفا واحدا وهو الظالم؛ سواء كان مسؤولا من المسؤولين في أجهزة الدولة أو من ذوي الجاه والنفوذ أو ممن يتمتع بالمال الكثير.

 

الدولة الظالمة تقوم بمهمة القاضي والجلاد في نفس الوقت

أي توصيف يليق بالظالم في الوطن العربي عندما يكون في صورة الدولة بمختلف أجهزتها؟ هل حقا تثبت تهمتها قضائيا أم أن الأمر أشبه بالمستحيل لكونها تلعب أيضا دور القاضي والجلاد في نفس الوقت؟ مبعث هذا السؤال لا يخرج عن سياقه التراكمي لِما جرت به المقادير في الأيام الماضية وما تجري به في الوقت الحاضر، إلى أين يمضي القضاء في البلدان العربية؟ وهل الدرب السائر عليه يوفر للمواطنين العدل المنشود؟ الواقع شيء مغاير لكون أصحاب السلطة في الدول العربية يسكبون المزيد من الظلم على المواطنين لتزداد مصائبهم وويلاتهم، فَهُم لا يتوقفون عن استبدادهم وقهرهم بشتى الوسائل.

 

والثابت أن ذرائع الأنظمة الفاسدة منافية ومجافية للحقيقة وإن احتكمت للقضاء الذي يخدمها في المقام الأول قبل غيرها، في حين أن المواطن المظلوم هو الذي لا حق له أمامها، لأنه في جميع الحالات لا يمكنه أن يكون سوى متفرج في مكرها بصمت مريع، وإن صرخ بصوت عال فلا سامع لكلامه ولا لقول الحق، فأصحاب السلطة في هذه الأنظمة هم المتحكمون في القضاء الذي يتكفل بتجميل أفعالهم وتصرفاتهم الظالمة وتزيينها، هكذا يجعلون القضاء في خدمة الظلمة حينما يكونون من المسؤولين الذين لهم السلطة والنفوذ والمال؛ إذ لا يمكن للقضاء في هذه الحالة أن يكون وسيطا لتحقيق العدل بقدر ما يسمح للقاضي بأن يصير مجرد جلاد للمظلوم وخادما للظالم.

 

والمثير للقرف والتقزز أن المسؤولين في الأنظمة الفاسدة لا ينفكون يتحدثون عما يُطلق عليه بدولة الحق والقانون، والتي تبدو في الأفق للمواطنين المقهورين مجرد خِداع وتوهيم لهم، وبات السؤال البديهي المطروح: عن أي حق وقانون يتحدث هؤلاء وهم في الأصل من يسلطون سياط ظلمهم على المواطنين المستضعفين؟ وما يفعلونه من ممارسات لاأخلاقية جائرة تعطي زخما قويا لكل من يُطبل لهم، لِيُحسن الترويج لرؤاهم المغلوطة التي تتذرع بالمصلحة العامة من أجل بَسط هيمنتهم واستعبادهم.

 

الأنظمة السياسية العربية تعتمد بالأساس على عكاز الأمن
الأنظمة السلطوية تعتمد على عكاز الأمن لتمارس الظلم والجور والقهر مع مواطنيها تحت مسمى القانون الذي يوضع على مقاس مصالح هذه الأنظمة التي تُفقد شرعية ذلك القانون أخلاقيا وإنسانيا

إن الهاجس الكبير عند أغلب الأنظمة السياسية القائمة في الدول العربية هو التمكن من بسط السيطرة على المواطنين، وإدارة الشؤون بالمقاربة الأمنية الجائرة في معظم الأحيان، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالفرد المسالم الذي يُتعامل معه بالقمع المفرط وكأنه في مِلك الدولة يحق لها معاملته كما شاءت، والتحكم فيه كلية لكي لا تكون له الإرادة التامة ولا السلطة الكاملة في خياراته وأسلوب عيشه وتحديد طريقة تفكيره، أي أن استخدام الأمن بهذا التصور بعيد كل البعد عن إحقاق الحق، ويتضح المعنى الصحيح لتوفير الأمن للمواطن حينما يمارس حقه في التعبير والرأي بكل حرية، مهما بلغ شدة اختلافه مع النظام السياسي القائم.

 

وغياب العدل في صورته المتكاملة كممارسة واقعية وظاهرة في البلدان العربية، يقابله نهج غير مبرر للمقاربة الأمنية ضد كل محتج مطالب بحقه بشكل سلمي وحضاري، عوض التجاوب الملموس والواقعي مع مطالب مختلف فئات المجتمع المتضررة والمسلوبة من حقوقها، تتنامى عملية القمع عبر تطوير آلياتها باستحداث القوانين التي تمنع المواطنين من أي مظهر من مظاهر الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا بالذات ما يؤكد أن الخيار الأمني السلطوي مقصود لتأسيس عملية طويلة الأمد للقمع، والذي يهدف إلى منع حرية التعبير والإجهاز على الحق في التظاهر والإضراب بقوانين استبدادية مجحفة، ووضع تشريعات تُجرم الاختلاف مع النظام السياسي السائد أو المؤسسة الرسمية أو النظام الحاكم.

 

إن الأنظمة السلطوية تعتمد على عكاز الأمن لتمارس الظلم والجور والقهر مع مواطنيها تحت مسمى القانون الذي يوضع على مقاس مصالح هذه الأنظمة التي تُفقد شرعية ذلك القانون أخلاقيا وإنسانيا، وتبقى تلك الأنظمة مهزوزة حقوقيا مهما رفعت من شعارات الديموقراطية الراقية التي يظهر زيفها في أبسط الأمور الحياتية المعاشة بأرض الواقع، فقد تحارب وتحاصر وتسجن من يختلف معها ولو في رأي موضوعي أو موقف سياسي، لأنها تعتبر ذلك انتفاضا ضد ما تم سَنُّهُ من قوانين ظالمة، فيحاسب بذلك المواطنون بحجة أنهم لم يحترموا ما نصَّت عليه تلك القوانين التي تجور عليهم وتكبح وعيهم.

 

وفي الأخير ينبغي الإشارة إلى أن تحقيق العدل في دولة ما لا يكون من دون توفير المناخ الآمن له عبر حماية حق المواطن في التعبير، وحفظه من تداعيات الاستخدام السلبي للقانون الذي يخلف الظلم من الآخر الأقوى، والذي قد يكون السلطة الأمنية نفسها التي يستند النظام السياسي عليها في بسط سيطرته، أو المؤسسة التي يعمل بها، أو حتى من المجتمع المختلف معه في الرأي، ولا يحق للدولة أن تتحدث عن العدل في ظل شرعنتها للقمع والظلم في قوانينها وسياساتها وخطاباتها التي تبرر له وتجعله أمرا ضروريا ومعقولا، فبذلك تميط لنا اللثام عن وجهها الحقيقي، لقد أصبحت حيل الأنظمة الفاسدة مكشوفة للعيان، وتصريحات رعاعها وعملائها التي تساق من أجل تبرير جرائمهم النكراء ضد قيمة العدل مجرد حيل ومقولات بالية ليست إلا دليلا واضحا على السفاهة التي بلغتها هذه الأنظمة على مستوى هياكلها وأجهزتها ومؤسساتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.