شعار قسم مدونات

عبد الباسط الساروت وقصّة ثورة لن تموت

BLOGS الساروت

انتقل إلى جوار ربّه يوم السّبت 8 يونيو 2019 الشّهيد بإذن الله عبد الباسط السّاروت منشد الثّورة السّورية، حارسها وأيقونتها متأثّرا بجروح أصيب بها في معارك ضدّ قوّات النّظام بريف حماة شمالي سوريا، لينضمّ إلى قافلة شهداء الحرّية ولتتحقّق أمنيّة كان لا يخفيها بل ويتغنّى بها بصوته الشّجي، تحوّل أبو جعفر إلى إيقونة لثورة شعب يتطلّع إلى الحياة الحرّة الكريمة بل صار شبه أسطورة توثّق أدقّ تفاصيلها منذ انطلاقتها قبل تسع سنوات، فكيف أمكن لشاب في مثل سنّه أن يفعل ذلك؟

السّاروت والثّورة المغدورة

انطلقت الثّورة السّورية سنة 2011 ضمن موجة الرّبيع العربيّ الأوّل لتشهد سوريا جملة من الاحتجاجات الشّعبية العفوية والسّلمية المطالبة بالحرّية والكرامة والانعتاق ووضع حدّ لما تشهده البلاد من قمع وانتهاكات لحقوق الإنسان وفساد ودكتاتورية، جوبهت المطالب المشروعة بعنف شديد وقمع لا يوصف ليكشّر النّظام عن وحشيّة دمويّة لا مثيل لها ويجرّ الثّورة إلى المربّع الّذي يحبّذه ويستدعي إليه كلّ طغاة العالم محوّلا سوريا إلى محرقة وساحة صراعات طائفية، إقليمية ودولية. قمع النّظام السّوري الفاشي الشّوفيني المجرم شعبه بالحديد والنّار ومارس كلّ صنوف الاضطهاد والتعذيب والتقتيل، من إلقاء للبراميل المتفجّرة واستعمال للأسلحة الكيماوية ولم يكتف بذلك بل وتكرّم على المهوّسين بالإجرام باستدعائهم ليشاركوه ساديّته المرضيّة.

كان السّاروت حاضرا في الثّورة في كلّ لحظاتها، شاهدا على لحظة ميلادها ومرافقا لها في انعطافاتها وتحوّلاتها، ومعبّرا بصوته وبصفحة وجهه عن القليل من ابتساماتها والكثير من حزنها وانكساراتها وهنّاتها

سقط مئات الآلاف من الضّحايا وشرّد الملايين بين نازح في الدّاخل ولاجئ في الخارج وسط صمت دولي مخز يرتقي إلى درجة التّواطئ والتّآمر لتتواصل المأساة والمعاناة لشعب ذنبه الوحيد أنّه تطلّع إلى حياة حرّة وكريمة. تعرّضت الثّورة السّورية إلى الغدر والخيانات والطّعنات ودفع بها دفعا إلى سوء المآلات لتصبح مثالا يلوّح به في وجه من كلّ من يفكّر في سلوك نهج الثوّرات. نظام طائفي متوحّش لم يتردّد في لحظة ارتعاشه إلى طلب نصرة كلّ متوحّش بل واختلاق من فاقه توحّشا، كلّ ذلك لأجل أن يستمرّ ويبقى ولو على جماجم ضحاياه ولو احترق كلّ البلد.

كانت بداية عبد الباسط السّاروت مع الثّورة مع أوّل بداياتها ليكون صوتها الجميل المدويّ في ساحاتها، في البياضة والخالدية حينما كان يكاتف الفنّانة الرّائعة فدوى سليمان في السّاحات ويقود المسيرات المطالبة بالحرّية والكرامة لتجابه بالقمع والبارود والنّار والخيانات وتجرّ مكرهة إلى مربّع العنف القاتل المدمّر للكيانات. كان السّاروت حاضرا منذ البداية ليكون الحرف والكلمة والشّعر واللّحن والصّوت الجميل الصّادق الصّادح ليجابه بصوت المدافع والبراميل المتفجّرة وقمع فاق التصوّرات. السّاروت شاب ولد ذات يناير 1992، كان حارس مرمى لفريق الكرامة ولمنتخب بلاده للشّباب، كان من الممكن أن ينهج طريق غالبية زملائه ليمثّل فريق منتخبه الأوّل وربّما ليجد مكانا له كمحترف في أحد الفرق الأجنبية لينعم بالدّولارات وبذخ الحياة، لكنّه اختار الطّريق الصّعب وخيّر أن يحرس ويدافع عن كرامة مهدورة في ميادين الواقع والجدّ، اختار أن يقاوم وأن يحتضن الأرض الّتي أنجبته كشجرة زيتون عصيّة على الاقتلاع، نبت من عمق الأرض وحمل تضاريسها وصار معبّرا لآهات المعذّبين فوقها.

كان السّاروت حاضرا في الثّورة في كلّ لحظاتها، شاهدا على لحظة ميلادها ومرافقا لها في انعطافاتها وتحوّلاتها، ومعبّرا بصوته وبصفحة وجهه عن القليل من ابتساماتها والكثير من حزنها وانكساراتها وهنّاتها. كان في بدايته كبلبل يشدو للحرّية والحياة والحبّ ليجبر إلى أن يتحوّل إلى نسر يدافع عن وجوده ووجود من كان يطربهم ويلهبهم حماسة وشوقا إلى حياة أفضل. كان حارسا لفريق الكرامة ولمنتخب شباب بلده الواحد ليتحوّل إلى حارس لكرامة شعب يتطلّع لأن يعيشها في البلد الواحد.

السّاروت الأسطورة

تواجد السّاروت، خلال تسع سنوات من ثورة مغدورة تهافت عليها ضباع العالم بأسره لأجل وأدها، في كلّ الميادين والأماكن، في البياضة والخالدية، في بابا عمر حينما كان محاصرا وفي حمص حينما شارك المحاصَرين أكل أوراق الشّجر والزّيتون المرّ، شارك بصوت حنجرته الّتي صارت علامة مميّزة للثّورة وبصوت بندقيّته ليواجه الموت طلبا للحياة، قاتل قوّات النّظام وميليشياته في حمص ليهجّر إلى الشّمال في 2014 ويلتحق بجيش العزّة، تعرّض إلى الكثير من محاولات الاغتيال كانت آخرها في 28 يناير 2018 ليصاب يوم الخميس 6 يونيو 2019 في يده وقدمه وأمعائه مع نزيف حادّ ساعات بعد احتفاله بدخول بلدة تل ملح، تمّ نقله للعلاج في تركيا حيث فارق الحياة هناك، رحمه الله وتقبّله عنده من الشّهداء.

كان يجابه الموت، بل ويتجرّأ عليه، يخوض معاركه مقبلا غير مدبر بشجاعة قلّ نظيرها ليتحوّل إلى إيقونة كاملة الأوصاف بل وأسطورة متكاملة الأركان، صفات وسلوك من شابّ في مثل عمره نقلته إلى خانة الأبطال الخوارق في مخيّلة وقلوب محبّيه. كان السّاروت ممثّلا أمينا للثّورة وصوتا صادقا معبّرا عنها بعيدا عن مصادح سماسرة نزل الخمسة نجوم، كان كتابا مفتوحا يمكن قراءة ما تمّ فيها من مؤامرات طالتها من الدّاخل والخارج وما دفعت إليه من تحوّلات لم يتخيّلها أشدّ المتشائمين، الساّروت هو الرّجل الأقرب تجسيدا للثّورة السّورية في نقائها وعفويتها قبل أن تدنّسها الأيادي الآثمة.

بأوّل أغنية "جنّة جنّة جنّة ا نت يا وطنّا" إلى آخر ما شدا به وهو في ساحات الوغى "سوريا ضلّي واقفة" وهو يغنّي لسوريا الحرّة الواحدة إلى كلماته الأخيرة وهو يوصي الثّوار: "يا شباب لا تضيعوا دم الشهداء، بجاه الله لا تضيعوا دم الشهداء"، كان السّاروت الحارس الأمين والبلبل الفريد والنّسر الكاسر وطائر الفينيق المنتفض من تحت الرّماد، كان اكسيرا لثورة تأبى الموت ومثالا للقائد والقدوة ومن يستمع لأمّه الحاجة حسنة، وهي الّتي فقدت زوجها وستّة من سبع أبنائها وحفيدين وخمسة من إخوتها لتستحقّ عن جدارة لقب خنساء العصر، كيف ترثيه وتوجّه رسالة لرفاقه محفّزة إيّاهم على الاستمرار في المقاومة والنّضال، ومن يشاهد جنازته كيف جمعت ما تفرّق ونفخت من جديد في ثورة أرادوا دفنها يتأكّد من أنّ ثورة الشّعب السّوري مآلها أن تنتصر في النّهاية وتحقّق أهدافها على قول شاعرنا التّونسي الفذّ ابو القاسم الشّابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.