شعار قسم مدونات

The Green Mile.. الإغواء الأخير للمسيح

blogs The Green Mile

"إن كل شيء في هذا العالم له معان خفية.. الرجال، الحيوانات، الشجر، النجوم، إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حل رموزها ليكتشف خباياها.. فعندما تراها فإنك لا تفقه لها معنى، فتعتقد أنها رجال وحيوانات وأشجار ونجوم.. ولكن فقط بعد مرور السنين تفهم معناها الحقيقي.. "

نيكوس كازانتزاكيس

   

سأحكي لكم حكايتين، الأولى ربما نعرفها كلنا وإن اختلفت فيها الروايات حسب الاديان، عن المسيح الذي عانى من نبذ عشيرته له، حمل لهم الخلاص وحملوا له الشر والقتل، قصة المسيح وفكرة الصلب لتخليص العالم من الاثام كانت اللبنة الاساسية للديانة المسيحية وألهبت قلب الإنسان من خلال التضحية لإسعاد الاخرين ولطالما مثّل جوهر المسيح توق الإنسان للتحرر، هذا التحرر في الديانة المسيحية مرتبط بالعودة للخالق، والحنين إليه.

 

والحكاية الثانية، عن طفل أسود يبلغ من العمر 14 سنة فقط، اسمه جورج ستيني وهو أصغر إنسان يتم إعدامه في الولايات المتحدة، كان ذلك في بداية العشرينيات، أُعدم جورج بواسطة الكرسي الكهربائي بعد أن أدين بقتل طفلتين من ذوي البشرة البيضاء، حيث عُثر على جثتيهما بالقرب من منزل جورج، استغرقت محاكمته ساعتين فقط، وبعد سبعين سنة من الحادث، استطاع قاض من كارولينا الجنوبية إثبات براءة جورج حيث أن الفتاتين قتلتا بواسطة أداة تزن أكثر من 19 باوندا وأن طفلا في عمره من المستحيل أن يتمكن من رفعها واستخدامها. استوحى الكاتب ستيفن كينغ من هذه الحادثة قصة بعنوان Green Mile وحولت سنة 1996 لفيلم يحمل نفس العنوان.

 

في اعتقادي، تمثل الحكايتان مدخلا مناسبا لتقديم وتحليل واحد من اهم الافلام السينمائية في التسعينيات، قد تتساءلون عن علاقة النبي عيسى بستيفن كينغ وميله الأخضر، لكن لا تتسرعوا فحين تعلمون أن مهمة تحويل الرواية لفيلم كانت موكلة للمخرج فرانك درابونت -المنتشي في تلك الفترة بنجاح فيلمه الخلاص من شاوشانك- فتأكدوا أن فكرة الفيلم الأساسية ستحتوي على أسرار وخفايا دون الإشارة لها.

   

   

جون كوفي.. المسيح لكن بتهجئة مختلفة

تدور قصة الفيلم في فترة الثلاثينات، حيت يئن الناس من ألام الركود الاقتصادي والحرب العالمية الثانية، وفي الأزمات تقع المعضلة فإما أن يتشبت البشر بإيمانهم ويتقربون من الله وإما ينفر الناس من الديانات والغيبيات فينقسم العالم لصنفين صنف يزيد هياما وتشبتا بالله وصنف آخر يشعر بأن الله تخلى عنه فيبدي هو الآخر امتعاضه فيبتعد عن التدين.

 

اختيار تلك الفترة لأحداث الفيلم يهدف لتوضيح العلاقة بين الإيمان وقوة الأسطورة، فبعد أن تخلى الغرب عن فكرة الرب في بداية القرن، عادوا إليه في أول محنة كنوع من المواساة أمام ما لا يمكنهم مجابهته، في انتظار معجزة ما أمام الشرور الذي انتشر في العالم.

 

يفتتح ستيفن كينغ روايته على لسان بول أدجيكوب في وصف كرسي الإعدام: "هناك، في الغرفة الأكثر اظلاما، تنبعث رائحة الموت الطازج، وسباركي العجوز مستقر في المنتصف وقد ارتوى من عرق الرجال المتسرب من أجسادهم بفعل الخوف، سباركي ضخم ومتين البنيان، سباركي ليس رجلا عجوزا لكنه الشبح الذي يطارد أقوى الرجال في أحلامهم، سباركي العجوز إنه بعينه نهاية الحياة وبداية الموت". هكذا إذن يصف بول (توم هانكس في الفيلم) كرسي الإعدام وهو يتحدث مع صديقته في دار العجزة، حيت نستطيع تخيل الحنين والأسى في عينيه للمعجزة السوداء التي زارته ذات يوم حينما كان مسؤولا عن عنبر الاعدام، جون كوفي (مايكل دانكن) الرجل الأسود الضخم طفولي القلب والعقل الذي لم يكن كغيره من المحكومين بالإعدام، سيق به ذات يوم لزنزانته والدمع في عينيه من الشر الذي تعرض له باتهامه بقتل واغتصاب طفلتين.

 

الميل الأخضر، هو المسافة التي تفصل حجرة الاعدام عن السجن، وهو المكان المخصص للمجرمين لانتظار رحلة دون عودة على متن العجوز سباركي، لكن هذا الضخم الأسود ذو الملامح المسالمة وعلامات الطاعة والبريء من ذنبه يجسد نقطة الخير في عالم من الشر والكره، نجح المخرج وقبله الكاتب في رسم شخصية جون كوفي بإظهار ملامح التفرد والطيبة والدفع بك تلقائيا للتعاطف معه والإيمان ببرائته حتى قبل أن تظهر القصة كاملة، بالإضافة لروحه المرحة في تكرار جملته المسلية كلما سئُل عن اسمه : "جون كوفي، وهو اسم لمشروب، لكن بتهجئة مختلفة".

   undefined

  

يمثل الفيلم في بعض النواحي، تجسيدا عصريا لحياة المسيح، فجون كوفي والسيد المسيح يتشاركان في حب الناس والبراءة من الذنب والقدرة على الشفاء، واستطاع المخرج أن يعيد تجسيد قصة المسيح الذي يُعاقب بسبب خطايا الاخرين، كما يُظهر الفيلم أيضا الطبيعة الحقيقية لعقوبة الاعدام ومدى قساوتها، خاصة في حال إثبات براءة الفرد، يحاول المخرج عبر شخصية جون كوفي أن يُعيد رسم قصة حياة المسيح طبقا للرواية المسيحية، فجون كوفي لم يكن يريد الدفاع عن نفسه ولم يستغل اتاحة الفرصة له لكي يهرب، فقد كان يرى في الموت خلاصه الوحيد من عالم الشر "أنا متعب يا زعيم من كل هذا القبح الذي يحمله البشر للأخرين"، لذلك قرر الاستسلام والرحيل، كالمسيح الذي جاء في زمن انتشر فيه الفساد في الأرض وقرر أن يعيش فقط من أجل تطهير العالم من ذنبه.

 

تقول الرواية المسيحية عن النبي عيسى إنه قادر على إحياء الموتى "أنا اُميت واُحيي" (تث32:39) وفي الفيلم يستطيع جون كوفي إعادة الروح للفأر الذي دهسه أحد الضباط الأشرار، وأولى قوى جون كوفي التي تظهر في أحداث الفيلم، تخليصه لبول من معاناته مع مرض التهاب المثانة فقط عن طريق اللمس، وبالعودة للقصة المسيحية فالنبي عيسى امتلك القدرة على الشفاء وعلاج الامراض عن طريق اللمس فقط، "فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء" (مت 14:36)، وعند كل جلسة علاج لمريض ما، نرى أن جون كوفي يمتص المرض ويدخله في جسده، وهذا بالذات جوهر قصة المسيح الذي يُصلب من أجل عشيرته ولكي ينذر الام العالم "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده" (بط 24:2).

 

ويأتي مشهد الإعدام كتتويج للتقاطع بين قصتي المسيح وجون كوفي، بداية بالطوق على رأسه كالطوق الشوكي على رأس المسيح والمراقبة السرية للضابط المنبوذ والشرير بيرسي الذي ظل يتفرج كقصة الخائن يهوذا الذي أفشي بسر عيسى، طبعا الفيلم لم يُعد فقط إحياء قصة المسيح، بل حاول ايضا مناقشة الإعدام خصوصا في حالة الأبرياء، هذه المعضلة التي سبق لعدة ادباء ان ناقشوها بداية بفيكتور هيكو في روايته "اليوم الأخير من حياة محكوم بالإعدام" حيت نتقرب من آخر يوم في حياة شخص مجهول الهوية والتهمة والظروف التي يعاني منها الاهل، وجوزيف بطل رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا، الذي يُذكرنا بالظلم الذي يعيش فيه هذا العالم والعبث الذي يُنهي حياتنا دون أي ذنب.

 

يقول نيكوس كزانتزاكيس في خاتمة روايته المسيح يُصلب من جديد: "تخلصت من الوطن، تخلصت من الكاهن، تخلصت من الماء، إنني اغربل نفسي، إنني اتطهر.. مادامت هناك أوطان فإن الإنسان سيبقى حيوانا مفترسا، نعم ليتبارك الله، لقد تخلصت وانتهى الأمر"، ويتسائل في الفيلم بول ادجيكوب الذي حُكم عليه بالتكرار الأبدي لحياته كالأسطورة الإغريقية سيزيف بعد أن قلب الإعدام حياته من جلاد إلى ضحية ليعيش في دوامة من الكآبة الوجودية: " في يوم محاسبتي، عندما أقف أمام الله، ويسألني لماذا قتلت واحدة من معجزاته الحقيقة، ماذا سأقول له؟ كانت هذه وظيفتي؟ وظيفتي؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.