شعار قسم مدونات

العلوم الدينية والناس الذين وصلوا للقمر!

blogs التراث الإسلامي

بين دعوات الحفاظ على الموروث ودعوات تجديد العلوم الدينية يقف المسلم حائرا، والحق يقال إن كلا الدعوتين تحملان قدرا من الصواب، لكن التزام الموقف الصحيح من كليهما معا هو أشبه بالوقوف على حبل مشدود، فأي انزياح زائد عن الحق باتجاه أحد الموقفين سيؤدي إلى السقوط.

احترام الاختصاص هو الأساس الصلب للتجديد:

إن أي دعوة إلى التجديد لا تنطلق من أساس احترام علوم الفقه والحديث والتفسير كعلوم اختصاصية هي دعوة ضالة، وكل احتجاج بالاكتفاء بالعقل للتعامل مع العلوم الاختصاصية هو غرورٌ وكسلٌ عن تحصيل أدوات الاختصاص، فغروري بعقلي لن يجعلني أتوصل إلى حساب "الجب والتجب" لأي زاوية ولو ظللت أعمل عقلي في الأمر عشر سنوات ما لم أتعلم أولا أصول علم المثلثات.

هل العلوم الإسلامية التخصصية علوم أصلاً؟:
يجب التأكيد مجددا على أهمية تحديد نقطة الارتكاز في دعوات التجديد، فإن أتت من قلب المنظومة وعلى بصيرة فيا أهلا وسهلا بها، فإن أتت من خارجها وكانت دعوات فوضوية فلا أهلا ولا مرحبا

إن مجرد طرح هذا السؤال يدل على الجهل الفاضح بأسس هذه العلوم الدقيقة، ففي الجامعات الغربية مثلا ينظر لعلوم السند وعلم الرجال بتقديرٍ كبير، ويُعترف بفضلهما في كون الدين الإسلامي أدق الأديان نصوصا على الإطلاق. ولكننا نسمع من يقول: "الناس وصلوا إلى القمر ونحن ما نزال نأخذ العلم بطريقة عن فلان عن فلان!" وهم لا يعرفون أن علم السند يعتبر من أدق الأدوات التاريخية التي يُتأكد من خلالها بأن فلانا من الناس هو شخصية حقيقية بالفعل، وعاش في الزمن الفلاني، في المكان الفلاني، وعاصر فلانا وفلانة، وله صلة فعلا بمن أخذ عنه، وبمن روى له، وأن أي نقص في هذه المعلومات يُضعف مصداقية النص.

والسند أمر اعتُمد لاحقا حتى في باقي كتب الأدب والعلوم، ليُحافَظ على مصداقية عالية للنصوص، الأمر الذي مكننا من معرفة عدد كبير من رجال كل عصر وعلاقاتهم ببعضهم وأماكن إقاماتهم والمناصب التي شغلوها، وهذه ثروة تاريخية لا تقدر بثمن، يأتي من يسخر منها ويريد نسف المنهجية التي أثمرتها! أما فيما يخص علوم الفقه، فقد ترجمت المذاهب الفقهية في الغرب إلى "المدارس الحقوقية"، لأنها بنى تشريعية كاملة كالدساتير ومناهج الحقوق، سهر على تأليفها عباقرة عصورهم، وصرفت على إقامة مدارسها وإعالة طلابها ثروات كبيرة. وبصرف النظر عن الأهمية التشريعية لعلوم الفقه، فإن لها أهمية تاريخية لا تقدر بثمن، إذ أنها مرآة لعصورِ تأليفها، نرى من خلال فتاواها أحداث العصر ومستجداته واهتمامات الناس فيه وأدق تفاصيل حياتهم.

إن نسف علوم الفقه الحديث لا يعني نسف البنية التشريعية الخلّاقة والنصوص الدينية فقط، بل يعني أيضا نسف التاريخ الذي تحمله هذه العلوم! فهل يعني ذلك أن علينا ألا نجدد العلوم الدينية الاختصاصية؟ كلا، إن التجديد واجب حتماً، فنحن لن نعيش بعقلية من سبقونا بقرون، وسنتمسك دوما بضرورة تنقيح كتب الحديث والتفسير وتحديث الفقه وفق التطور المعرفي لعصرنا، ولكن ذلك لا يتم بهدم ما قبله، بل بترميمه والبناء عليه، وبأيدي المختصين، لا بأيدي غير الأكفاء الذين يهدمون على غير هدى.

كيف يمكن تجديد العلوم الإسلامية التخصصية؟

يجب التأكيد مجددا على أهمية تحديد نقطة الارتكاز في دعوات التجديد، فإن أتت من قلب المنظومة وعلى بصيرة فيا أهلا وسهلا بها، فإن أتت من خارجها وكانت دعوات فوضوية فلا أهلا ولا مرحبا. أما تجديد هذه العلوم فسيكون أفضل ما يكون لو كان عملا منهجيا أكاديميا جماعيا مؤسسيا، بحيث تُخلق شرعيته معه، لأن أعمال المراجعات الفردية تأخذ وقتا طويلا حتى تتحصل الاعتراف الذي تحتاجه، لذلك نرى أن قرارات المجامع الفقهية تأخذ احتراماً عالياً عند عموم المسلمين، لا سيما في المستجدات من النوازل الفقهية، أما الطروحات الفردية فإنها تأخذ وقتا طويلا حتى يتم قبولها مهما كانت عبقرية وسابقة لعصرها. وتجدر الإشارة إلى أنه في عصور الأمة الذهبية، كانت العلوم الشرعية على رأس العلوم أهمية وتقديراً، أما الآن فهي في ذيل العلوم من ناحية الدخل ودرجات التحصيل. ولن تزدهر هذه العلوم حتى تُبذل لها أذكى العقول لأهميتها الكبيرة في تشكيل وعي الأمة وصناعة تاريخها، وذلك عوضا عن حصر إقبال هذه العقول على العلوم التطبيقية.

كما أن ازدهار هذه العلوم لا يكون إلا بإيلائها وطلابَها دعما ماليا كافيا، تماما كما كانت أموال الوقف تتدفق في عصور الإسلام الذهبية لإنشاء المدارس والمكتبات وإعالة الطلبة. وإن كل تأخر عن تجديد هذه العلوم هو زيادة في الوقت بدل الضائع الذي يلعب فيه العابثون بالدين، فيدخلون من الثغرات المفتوحة إلى حرمته، ويأتون بكل جديد، إما عن نوايا هدّامة، وإما عن جهل، وأحيانا أيضا عن غيرة على دين الله، خاصة وأن كثيرا من الوعاظ غير المتمكنين لعبوا دورا كبيرا في تقديم صورة مغلوطة عن الدين، ونقلوا ما هو مقتطع من السياقات، وما هو محل خلاف على أنه مسلمات، وأدلوا بآرائهم الشخصية بأسلوب فظ على أنها فتاوى دينية في مواقع آسك وغيرها، لذا فإن هؤلاء أيضا هم ممن سيضع تجديدُ العلوم الإسلامية على أيدي أهلها وتفعيلُ المؤسسات الدينية واستعادةُ هيبتها حداً لعبثهم.

ماذا عن فساد المؤسسات الدينية؟
التعدي على علوم الفقه في الأمور البسيطة، وادعاء قدرة الشخص العادي على التحليل والتحريم لن تكون آثاره فقط في قضية حجاب وطهارة وصيام على أهمية هذه الأمور

إن الخطباءَ يدعون للظلمة على منبر المسجد الحرام الآن، فهل نبطل الصلاة ونهدم الحرم؟ ولو استشرى الفساد بين قسم من أساتذة كلية الجغرافيا فهل نلغي فرعها من الجامعة؟ المؤسسات الدينية العلمية لن تعيش في منأى عن هذا العصر، بل لقد أصيبت هي الأخرى بآفاته، وهناك حاجة ملحة لإصلاحها إصلاحا مؤسساتيا متزامنا مع عملية إصلاح تشمل جميع مناحي الحياة. والمسؤول الأول عن فساد هذه المؤسسات وتلميع فاسديها وفقدانها موثوقيتها هي الأنظمة الطاغية التي خربت كل مناحي الحياة، كما لا يُعفى من المسؤولية العلماء أيضا، لكن علينا أن نحدد معركتنا الأهم، ألا وهي معركتنا مع الاستبداد السياسي أصلِ الشرور. وحتى يأتي الوقت الذي نستعيد فيه هذه المؤسسات علينا أن نحفظ مكانتها، وألا نساهم في هدمها فنهدم معها بالتالي بوصلة الأمة التشريعية والأخلاقية، ولكن البعض عوضا عن النظر إلى أصل المشكلة، يعلنون الحرب على المؤسسات الدينية العلمية وعلومها.

أليس هذا كهنوتا؟

وقد يسأل البعض: ولكنني أسلم حياتي بتفاصيلها لمفتٍ يقول لي هذا حلال وهذا حرام، وأنا أستطيع بنفسي أن أحدد ما أراه صحيحا، أليس هذا كهنوتا؟ لم يكن في الإسلام كهنوت يوما حتى في العصور التي كانت فيها المدارس الدينية أكثر المؤسسات هيبة، فنحن نتحدث عن مجالات علمية اختصاصية أبوابها مفتوحة لكل من يريد الدراسة فيها. وفي حياتك افعل ما تشاء، ولكن لا تتبوأ مقعد الفتوى بغير علم، ولا تطالب المشتغلين بالفقه بالكف عن عملهم، أو بمهر أفعالك بـ"الحلال" لترتاح. إن التعدي على علوم الفقه في الأمور البسيطة، وادعاء قدرة الشخص العادي على التحليل والتحريم لن تكون آثاره فقط في قضية حجاب وطهارة وصيام على أهمية هذه الأمور، فهذه العلوم إنما يجب عليها أن تشرع أيضا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلم والحرب وغير ذلك، وإسقاط هيبتها في التفاصيل الصغيرة، يعني إسقاطها تماما كمرجعية تشريعية للدولة.

الإرث الحضاري ليس نكتة!

إن محاكمة أفكار الأمس بعقلية اليوم قصورٌ كبير في التفكير، فلا يوجد علم يبدأ من الصفر، بل تتطور العلوم عما سبقها، ولكل علم تاريخ ينظر إليه بعين التقدير. إن الفتاوى القديمة لا يجب أن تصير موضوعا للتندر، كما يفعل البعض حين يتناقلون فتاوى من كتب الفقه القديمة كالنكات، ويسخرون من أصحابها. بل إن هذه الفتاوى يجب أن تقدر عاليا، لأنها إرث حضاري وجزء من التاريخ أولاً، ولأنها سلف الفكرة الجديدة ثانياً، ودراستُها أمر ضروري لتعرف الأمة أي طريق سلكت أفكارها وسلك مفكروها حتى وصلوا إلى أفكار اليوم. لأرسطو وأفلاطون مثلا مقولات عن الكون والمرأة تبدو وفق عقلية هذا العصر مضحكة جدا، لكنها لا تزال تدرّس في كل جامعات العالم على أنها إرث الفلسفة وتاريخها، فلماذا نسيء إلى تاريخ علومنا الدينية ونجعله مادة للسخرية وتشويه الهوية؟

هل هذا يعني أن علينا غيرَ المختصين ألا نتكلم في القضايا الدينية نهائيا؟

لقد كانت مناظرات الفقهاء وخلافاتهم محل نقاشات العامة على مر التاريخ، ولم يُحجر يوما على العقول، فهناك دوما متسع لطرح الأسئلة وإبداء الرأي، لكن ما يجب الانتباه له عند الخوض في شأن اختصاصي ديني هو أن يعترف المرء بعدم أهليته للوصول إلى استنتاجات نهائية، وبالتالي ألا يقدم نفسه ورأيه الشخصي كمرجعية للآخرين، وأن يحترم اختصاص المختصين وعلمهم، الأمر الذي يوجب على المختصين أيضا الإصغاء لطروحات الناس وأسئلتهم، وعدم تسفيهها والتعالي عليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.