شعار قسم مدونات

بين أمس مصر ويوم السودان

blogs السودان

اليوم عن طريق الصدفة مررتُ بأحد مقاطع الفيديو التي كنتُ قد سجلتها قديماً، وكان فيها صوت الأغنية المصرية "ثور دي ولا انقلاب" يذاعُ مع صوت أختي التي تردد بأعلى صوتها معه "إنقلاب إنقلاب، ثم مر على عيني شريط الثورة المصرية التي سُـلبت، تذكرت ليالي ميدان رابعة العدوية، ميدان الصمود، ميدان الساجدين، ميدان العابدين، مشاهد الاعتصام والهتاف، ثم الهجوم وكل من اعتقل وقُتِل هناك.

  

تذكرت تضامني معاها ومراقبتي للأحداث لحظة بلحظة، مشاهدة الأخبار من الصباح وحتى الفجر، حفظ أغاني الإعتصامات، الدعاء معهم ولهم، ترقب النصر والفرج أكثر منهم! ثم فاجعة الهجوم ومذبحة رابعة، من مات ومن أُحرق ومن أُسر، كل الصور والأسماء أصبحت ترن في رأسي وتدمي قلبي، أسماء البلتاجي قبل زفافها بساعات تنقذ المصابين لتكون معهم ضحية، وغيرها كثيرات.

  

تضامن واسع النطاق، الشارع العنكبوتي يتحدث، يغيرون صورهم على الفيس بوك، أجدني أغير معهم… ينشرون الأعلام أفعل أيضاً، يرددون الهتافات، أردد معهم كتابةً وداخل غرفة بحيطان.. ثم سكت الجميع فسكتتْ! بلعتُ الفاجعة ونسيتُ أو تناسيتُ كل ما حصل، غيّرت الرمزية لأنني وجد صورة أجمل، حذفت الأغاني والهتافات بحثاً عن مساحة تخزين أوسع في هاتفي، وتجاهلت كما كثيرين فعلوا، حق من قُتل وحق من يعيشون تحت الأسر والظلم والتعذيب إلى اليوم.

 

الواقع يحتاج صوت أعلى، حلولاً حقيقية أيها العربي، علينا أن نتحرر من أخطائنا المنهجية المتكررة، أن ندرك أننا نحتاج صوتاً لا ينطفئ، وأغنية لا تتوقف وصورة لا تغيَّر

يمر الوقت وتطوى الأيام لـتزورنا فاجعة السودان، بنفس المسار ونفس الخطة ونفس الأحداث، هاهي السودان تُسلب منها ثورتها، يُفك اعتصامها، تغتصب فيها أكثر من أربعين امرأة، ويقتل فيها ما يزيد عن خمسة مئة شخص ويعتقل فيها الآلاف، تُعزل عن العالم الخارجي بقطع الإنترنت ووسائل التواصل، عدوان لم يسلم منه حتى الأطفال، ولماذا؟ لأنها تثور، تعتصم وتهتف وتطالب بما يجب أن يكون لها!

  

أما أنا فأغير موقفي، أراقب عن بعد الشارع العنكبوتي وهو – يتضامن – بالطريقة المعتادة، يحاول لعب دور الإعلام البديل من جهة، ومساندة مباشرة للسودانيين سواء داخل السودان أو في المهجر، صورة هنا وكلمة عميقة هناك، مقال يلخص الموقف وتنظير يحصد عشرات التعليقات، وبعض المحاولات الجادة لتسليط الضوء على الحق.

  

أراهم اليوم يغيرون الصور الرمزية بـ صورة زرقاء تعبيراً عن حزنهم، الحزن على محمد مطر شهيد الإعتصام ورمز المقاومة، في ساعات قليلة اقتحم اللون الأزرق ساحات التواصل جاعلا العالم يتساءل ويبحث ويتضامن، يتذكر مصر وما حصل فيها، ليبيا ومايعانيه شبابها حتى اليوم من عدوان عسكري لايتوقف، يتذكر اليمن التي سلب منها وصف السعادة وقد وصفت به ردحاً من الزمن قبل أن تقع ضحية من تآمر عليها ممن يدعون الأخوة والجوار والعروبة والإسلام والقيم الإنسانية النبيلة أم سوريا فجرحها النازف لازال يبحث عمن يضمده.. ويتذكر السودان نفسها قبل سنوات، ولكن بقى السؤال: هل كل هذا يجدي؟

  

بقيت متسمّرة دون جواب، معترفة بأنني لا أستطيع أن أذهب بنفسي لنفس ذلك المكان الذي كنتُ فيه في أيام غضب مصر، بقيت أفكر وأقول: لو أن صورة الأربعة أصابع التي أفزعتهم حررت أسيراً واحداً في مصر لما أزحتُها، ولو أن الصورة الزرقاء التي سأضعها اليوم يمكن أن تحدث أثراً يبقى، أو تخفف ألم طفل واحد، أو تحقق غاية من غايات المتظاهرين الذين خرجوا بحثاً عن الحرية، لو كانت هي مطلب محمد مطر، لوضعتها وصنعت منها رداءً أرتديه أينما ذهبت!

  

لكن الواقع يحتاج صوت أعلى، حلولاً حقيقية أيها العربي، علينا أن نتحرر من أخطائنا المنهجية المتكررة، أن ندرك أننا نحتاج صوتاً لا ينطفئ، وأغنية لا تتوقف وصورة لا تغيَّر، وإشارة لا تقمع، تضامناً يُشعر الجميع أننا هنا ماديا ومعنويا، جميعا كجسد واحد، لا بصور زرقاء وأربعة أصابع! بعد كل هذه السنوات لا زلنا نجد أنفسنا هنا ما بين -ثورة دي ولا انقلاب- وبين ليبرالية وشرعية نسيتا عيش الحرية والعدالة الإجتماعية، جميعنا نتخبط، جميعنا نتضامن مع مسار لا نقوده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.