شعار قسم مدونات

أيُّ ذُلٍ وهوانٍ قد علانا!

blogs ثورة يناير

في مشهدٍ غريب، غير مألوف للجميع، لا أحدَ يعرف ما الذي يحدث، يقف مسرعًا كطفلٍ في ليلة عيدٍ يحتضن ملابسه الجديدة ولم ينم من ليلته، إنّه اليومُ المشهود، يوم يجتمعون فيسأل: يا رب فيما ظلموني وفيما قتلوني! أنا منهم، من الذين هتفوا "يسقط" في ميدان التحرير، من الذين اعترتهم حمية الشباب، وتلهّبت في نفوسهم نار الثورة الموقدة، فتساوى عندهم الموت مع الحياة، والليل مع النهار، حتى أصبحوا لا يتكلّمون ولا يأكلون ولا ينامون إلا على شعاعٍ حلمٍ استوطنهم وأصبح يجري بهم مجرى الدمّ من عروقهم، واتّقد فيهم حتى أصبحوا وأمسوا يرونه غائب قد أطلّ زورقهُ من بعيد، من غياهب عتمات البحار المظلمةـ وهو آتٍ لا محالة..

 

لقد كُنّا كالجمرِ المُلتهِب بنيران الثورة، وقد اجتمع فينا نار التغيير ونار الشباب معًا، حتى شكلوا قلبًا حالمًا يسكنُ جسدًا طامحًا في غدٍ أفضل، يراه وقد اقترب فجره، فيلتهبُ أكثر كلما ذكره أو ذُكِر به، لو رأيتنا؛ لرأيت جيلًا قادرًا على تحريك الجبال، واستخلاص معادن الأرض من باطنها وتهييئها إلى أن تصبح مكونًا صالحَ الاستخدام، ليس إلا لنقوم بوطنٍ قد أهلك حرثه من كانوا يتربّعون على عرشه سنوات الظلم والبطش.. لقد كنّا في مسيرات العزم والتغيير، نَنَم أمام لجان الانتخابات، طعم الحرّية قد امتزج بألسنتنا كريقِ المطر على الأرض الجدباء أحدث رُهامًا تعرفه الأنوف، وترسم بها العقول لوحات الأمل، ها هو المطر سيهطل علينا وتعمّ الأرض خضرتها وستنضج سنابلها بعد سنينٍ عِجاف..

 

قد ظلّ ثابتًا على العهد، لقد وفّى، لم يخن أمانته، ولم يبع قضيّته ولم يهادن، لقد قال كلمات ستكتب في صحف التاريخ بماء الذهب، عُزِل بانفراد في مربّعٍ زجاجيّ، يسمع ولا يستطيع الكلام

أنا منهم؛ من أولئك الذين عاشوا عمرًا طويلًا في الرّغَد، في عام كامل من الحريّة والأمل، كبرت أحلامنا فيه، وكبرت معها نفوسنا، كنّا نرى وطننا من بعيدٍ كعروسٍ تكحّلت وتهيأت لعُرسِها بعدما سلقوها القوم بألسنةٍ حداد لسنين طوال، وها هي الآن تنظُر إليهم من بعيد وهي على مشارِف إتمام عرسها وستذهب إلى مستقرّها، لتنبت قومًا مصلحين يُعيدوا لها وللأمّة مجدها وعزّها..

 

أنا منهُم؛ لقد رأينا الفرحة تُنتَزَع عنوةَ من أعنيها البريئة قبل أن تكتمِل، لتسقط جريحةً ويسقط فرسانها ما بين شهيدٍ على أبواب حرسٍ، ومفحم في نيران في نهضةٍ لم تهدأ صراخها إلى الآن! وأخرى كالوردةِ اقتطفها غادر من بستانها لتذهب حوريّةً إلى الجنّة في يومٍ عصيب، ارتقى فيه آلاف الشهداء في أيامٍ الله المباركات..

 

لقد صلّينا هناك كثيرًا، وتبادلنا الحُبَ والتمور على صوت أذان المغرب وسط فرح الصائمين، لقد صُمنا وقمنا وتبادلنا التهاني وعشنا حياةَ أخرى غير حياتنا، أيامًا معدوداتٍ قد حُفرت أحداثها في ذاكرتنا، نستطيع أن نسردها كما هي بهفواتها وسكناتها، ولكن كيف نرويها لأبنائنا أو نخطّها بعدما طمسوها وبدّلوا حقائقها وأصبح المظلوم ظالمًا والقاتل بريئًا والمقتول يستحقّ أن يموت هكذا لأنه كذا وكذا، هل سيصدِّقُنا التاريخ بعدما بدّلوه!..

 

لقد أصابونا في أنفسنا وأهلينا وأموالنا، لقد نهشوا لحمنا وخاضوا في أعراضنا، وقوّلوا الأقاويل لطمس حقيقة الأمر، وحقيقة الأمر؛ أنّ هذه الحقبة الزمنية البسيطة التي لا تذكر إلا في نفوس من عاشوها وعرفوا قدرها واستنشقوا عبير حرّيتها ستظلُّ غصةً في حلقهم وكابوسًا يراودهم كلما ذهبوا، وأينما حلّوا.. تراودهم في أحلامهم ويقظتهم، يرونها في كل تلك الميادين، حتى أنهم يحاولون القضاء على كل شيء قد يوحي لهم أنه قد ينتمي إليها!

 

لقد شعروا أنّ هناك قلبًا ينبضُ بالتغيير، ينبضُ بالحريّة، ينبضُ بغزّةَ وفلسطين، يقول "إن ما يحدث في غزّة أمرٌ خطير وعدوان سافِر" شعروا أن هناك عزيزًا ينتفِضُ لمصر ومن حولها، لم يتمالكوا أنفسهم وظلّوا يبطشون بكل غاد، لا يريدون أن يخرجوا من سنينهم العِجاف، فسجنوه كما سجنوا يوسُفَ "عليه السلامَ" من قبل، واتّهموه بخيانتها، قالوا: لقد راودها عن نفسها، وهذا جزاء من أراد بها سوءً، وزُجَ به في سجونهم بضع سنين بادعاءات باطلة ما أنزلَ الله بها من سلطان..

 

لقد ظلّ ثابتًا على العهد، لقد وفّى، لم يخن أمانته، ولم يبع قضيّته ولم يهادن، لقد قال كلمات ستكتب في صحف التاريخ بماء الذهب، عُزِل بانفراد في مربّعٍ زجاجيّ، يسمع ولا يستطيع الكلام، يراهم يتقوّلون وينظر إليهم، لقد أطلّت عليكم غمّةً من بعيد، وستحلّ قريبًا من داركم، حتى يحكم الله! لقد ارتقى بالأمس إلى أعلى، حيثُ الحريّة المطلقة، حيث لا قيود ولا اضطهاد، حيث لا ظُلم أبدًا أبدا ولا اتهامات، يوم تشهدُ الألسنةَ والأيدي والأرجل، فتتكلّم بما أخفت الصدور، وبما بدّلت النفوس الخبيثة، هناك حيث يومَ الحساب، يوم يجتمع الخلق، فيشهدون له كما شهدوا له في الدنيا، وتغمرهُ دعواتهم، ويأتي الله بكل من شارك وأيّد وشمت، وعند الله يختصمون، عِندهُ لا تُظلمُ نفسٌ شيئًا، وإن كانَ مثقال حبّةٍ من خردَل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.