شعار قسم مدونات

كيف يعيش السودانيون بغير إنترنت؟

blogs السودان

في حديث للناطق الرسمي بإسم المجلس الإنقلابي العسكري بالسودان الفريق شمس الدين الكباشي قال هازئا: المدنية دي شنو؟ ما زول لابس مدني! وأشار إلى بزته العسكرية للمفارقة. وقال أيضا: خدمة الإنترنت تشكل تهديداً للامن القومي. وقال نائب رئيس المجلس الإنقلابي حميدتي: عاوزننا نرجع لثكناتنا نرجع كيف يعني؟ هذه المقدمات الافتتاحية أيها القاريء الكريم هي من أفواه تحمل رؤوسا فيها عقول – تخيل- تتصدر المشهد السوداني الان. تذكرت بيتاً لمحمود درويش حين قال: "والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله يلقي عليهم نظرة ويمر"، فهذا العبث الان هو سيد الموقف في السودان.

   

كيف يعيش السودانيون الان من غير إنترنت؟ يظن المجلس العسكري وهو بهذه العقلية التي نستشفها من مقالاته أعلاه، أن قطع الإنترنت عن البلاد يعني قطع الثورة، ويعني وأد آمال ملايين الشباب وأنه سيخرس الشعب للأبد عنه وعن جريمته يوم فض إعتصام القيادة العامة في 29 رمضان. لكن الذي يحدث الان على أرض الواقع بإختصار كالتالي:

 

في الوقت الذي تخسر فيه شركات الإتصالات المحلية وتعاني في صمت مرارة الخسارة، يرى تقنيوها ويعرفون أن سوق الإتصالات سوق عالمي حر متعدد الخيارات والوسائل، فلجأ الناس لطلب خدمة التجوال الدولي من شركات أخرى خارج البلا

أولا: شركات الإتصالات تتكبد بصمت مؤلم خسائر بملايين الدولارات يوميا فقط لإرضاء غرور العسكر ورغبته الجامحة في التغطية على صور المجزرة التي أنزلها بالمعتصمين السلميين العزل صبيحة 29 رمضان، لكن الواقع يقول أن الأمور وإن هدأت قليلاً إلا أنها تسير بسرعة نحو الإنزلاق نحو المجهول، تخسر شركات الإتصالات وتخسر خزينة البلاد عائدات ضريبة الإتصالات بينما الناس في الطرقات والمناسبات العامة وفي المواصلات –إن وجدت- يتداولون الصور والفيديوهات لأحداث الفض، وكالات الأنباء المختلفة عدا -الحدث والعربية بالطبع-تتبرع بسخاء بنشر أي مقطع فيديو للإنتهاكات التي تمت، بل وصل جدول التصعيد الثوري أن يعلن على محطات القنوات الإخبارية في الجزيرة وغيرها ويشاهده كل السودانيين في الداخل والخارج ثوار وغير ثوار، ويشاهده حتى العسكر في الثكنات وفي القصر الجمهوري، إذن ما جدوى قطع الإنترنت بربكم؟

 

ثانيا: بدأ الناس شيئاً فشيئاً يلجون لخدمة الإنترنت عبر مختلف البدائل الحديثة وغير الحديثة على السواء، فمن خدمة الإنترنت الثابت عبر الهواتف الثابتة وعبر الواي فاي والرنغل والماي فاي وتشارك البعض لشراء جهاز راوتر واحد، بل حتى المؤسسات الحكومية التي تعمل بخدمات إستثنائية بات موظفوها يشاهدون وينشرون ويسربون الأخبار لمن خلفهم، نعم في بدايات قطع الإنترنت كان من الصعب العثور على تأكيد لبيان ما صدر عن قوى إعلان الحرية والتغيير أو من المجتمع الدولي، أو إعلان موكب أو مظاهرة أو وقفة سلمية، لكن الان وقبل أن أكتب مقالي هذا طالعت في شاشة كبير ملئ البصر جدول التصعيد الثوري المزمع قيامه من قوى إعلان الحرية والتغيير، والناس في الطرقات وفي القهاوي العامة وعبر الرسائل العادية تتداول البيانات والأخبار وحتى الصور والفيديوهات تنتشر عبر الأجهزة الحديثة الداعمة لخدمات الجيل الرابع ودون حتى إشتراك بالإنترنت.

 

ثالثا: في أسوأ أيام عهد المخلوع البشير، لم يجرؤ على قطع خدمة الإنترنت لأنه ديكتاتور يفهم لحد ما في حسابات الربح والخسارة، لكن هؤلاء وعلى طريقة التفكير العسكرية القحة لا يهمهم شيء عدا أن لا تنتشر الصور والفديوهات الموثقة لمجزرة الفض، غير عابئين بالخسائر اليومية لقطاع الإتصالات والشركات والمصانع بل وحتى خسارة طلاب البحث العلمي ممن يتواصلون مع كلياتهم ومعاهدهم بالخارج، ومن الفرص التي يخسرها الشاب السوداني المقدم على منحة دراسية بالخارج، كل هذه الخسائر ليست في اعتبارهم طالما أنهم مدعومين بثلاثة مليارات دولار من محور الشر السعودية والإمارات، ويكأن إقتصاد بلد كامل الان بات رهناً للمساعدات الأجنبية.

  

رابعا: في الوقت الذي تخسر فيه شركات الإتصالات المحلية وتعاني في صمت مرارة الخسارة، يرى تقنيوها ويعرفون أن سوق الإتصالات سوق عالمي حر متعدد الخيارات والوسائل، فلجأ الناس لطلب خدمة التجوال الدولي من شركات أخرى خارج البلاد عن طريق أهاليهم المغتربين بالخارج، كل ما عليك هو أن تتملك شريحة إتصالات من بلد أجنبي وتشحنها برصيد كاف ومن ثم تقوم بتفعيل خدمة التجوال الدولي لتكون متصلا بالإنترنت وليس لأي جهة محلية أن توقف عنك الخدمة لانك ببساطة خارج نطاقهم التقني والقانوني بل وحتى السيادي.

 

خامسا: العسكر لا يتعلمون من التاريخ، بل لا نظنهم يقرأونه، فثورة 6 أبريل 1985 ضد النميري حين خرج الشعب بالملايين إلى الشوارع حتى القيادة العامة لم يكن الشعب ذلك الوقت يمتلك هواتف ذكية أو غبية حتى، خرج لأسباب موضوعية لا زالت قائمة إلى اللحظة، تتمثل في إصرار العسكريين على إدارة دفة البلاد بما لا يتناسب مع إمكانياتهم المعرفية والإدارية، خرج الشعب لانه سأم عنجهية النميري وقفزه من اليسار إلى أقصى اليمين، وتحالفاته المتهورة مع الجبهة الإسلامية، خرج لأنه مل إنفراد فرد بالسلطة وتحكمه بمصير الملايين، خرج لأنه مل أن يكون حقل تجارب لفرد لا يعرف وجهته كالذي يحدث الان من إصغاء العسكر لمحور الشر الإماراتي السعودي، هذا الشعب في 1985 لم يكن يمتلك إلا قلب ورغبة لا زالت حية ويقظة للتغيير نحو سودان حر معافى من لوثة الفرد والإستفراد.

 

خسرنا معركة وارتقى منا شهداء وجرحى، نعم هذا ثمن ندفعه بكل حب لكيلا نكون ولا يكون أبناؤنا من بعدنا تبعاً لدول الرز، ولكننا لم ولن نخسر الحرب في سبيل أن نكون دولة محترمة بين الأمم

سادسا: الشارع الان يتحدث بإستغراب متعجبا أن المخلوع البشير طوال حكمه الديكتاتوري ثلاثون عاماً بدأ فيها بتدمير إقتصاد السودان الذي كان بلداً زراعيا، ثم دمره أيضا وهو نفطياً يجني عائدات على الخام والتكرير، ثم أدخله بسبب الطمع والجشع وتنمر حزبه الحاكم ومراكز القوى المختلفة في حزبه وبيته في متاهة المضاربة بسعر العملات إلى أن وصل إقتصاد السودان مرحلة تسول القمح والمحروقات في بلد لو زرع فيه إنسان بطوله ربما أثمر، في بلد يعوم فوق بحيرة من نفط وثروات طبيعية حباه الله به، المفارقةالتي يتحدث بها الناس بملل ظاهر وخوف من القادم، أن العسكريون الان ومعهم قائد الجنجويد حميدتي بدأوا من حيث إنتهى المخلوع، بدأوا بمرحلة التسول، فإلى أين سيسوقون البلاد يا ترى بعد عام فقط وليس ثلاثون عاما.

 

ومن المؤسف ان مقولة التاريخ يعيد نفسه تتكرر عندنا بشدة في السودان، فالقوى المدنية المنوط بها تمثيل الثورة على أكمل وجه للأسف وقبل أن تكتمل الثورة بدأت في رفع صوتها عالياً بإقصاء كل من لم يوقع ميثاقها، خسرت القوى المدنية كما خسر تجمع المعارضة عام 1985 يوم رفع الإضراب السياسي قبل أوانه، وخسروا يوم أصروا على تمديد الإعتصام أمام الميدان ليتحول إلى فاجعة وطنية لا تقل فداحة عن رابعة والنهضة، ولو كان الإعتصام انفض قبلها بيومين أو أسبوع لكان السودان الان كله ثورة وشوارعه كلها تهتف للحرية، ولكان العسكريون الان يبحثون عمن يسلمونه السلطة لتهدأ الشوارع، ولما نجح سيناريو المخابرات الحربية المصرية عندنا، للأسف الشعب قدم تضحيات جسيمة قابلتها قوى التغيير بضعف أداء في زمن حرج لا يتحمل اللعب الضعيف وتضييع الفرص.

 

لست متشائما، ولست مفرطاً في التفاؤل، لكن لن يستطيع من لا يملك قوته أن يملك قرار هذا الشعب، لن يحكم هذا البلد من اختزل إقتصاده فقط فيما يدفع له قمحا ومحروقات مقابل جنوده في اليمن تلك الحرب الخاسرة جدا حتى الان للتحالف السعودي الإماراتي، ولو ظن المانحون والرعاة الرسميون لهذا المجلس الكسيح مسلوب الإرادة والقرار أن النموذج المصري سينجح أيضا هنا فلينظروا إلى مصر ويتأملوها جيدا، فهي تغلي الان تحت أقدام العسكري ولن يطول الأمر كثيراً حتى تخرج المحروسة متحررة من قيدها.

 

خسرنا معركة وارتقى منا شهداء وجرحى، نعم هذا ثمن ندفعه بكل حب لكيلا نكون ولا يكون أبناؤنا من بعدنا تبعاً لدول الرز، ولكننا لم ولن نخسر الحرب في سبيل أن نكون دولة محترمة بين الأمم. وليسألوا المخلوع في حبسه الان، من أسقطك وانت تملك عشرات المليشيات المدججة بالسلاح والعتاد، أليسوا هم الشهداء عراة الصدور الا من حب هذا البلد، أليست زغاريد البنات هي من أزالتك، فكيف بالشعب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.