شعار قسم مدونات

بين إيران وإميركا.. إلى أين يتجه العراق؟

blogs العراق

في أواخر أيار الماضي، اِستضافت العربية السعودية ثلاث قممٍ مُنفصلة في مكة المكرمة، على أمل ضمانِ إدانة المنطقة للأنشطة الإيرانية في الشرق الأوسط. لكن، وسواء في منظمة التعاون الإسلامي، أو الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي، حظيّ السعوديّون، بخيبةِ أمل، أنه وليس الجميع يُشاطرهم رأيهم حول إيران. في اجتماع جامعة الدول العربية، ناشد الرئيس العراقي برهم صالح قادة المنطقة للمساعدة في الحفاظ على إستقرار إيران. وقال إنه إذا خاضّت الولايات المُتحدة وحلفاؤها الحربَ مع إيران، فسيكون للصراع تداعيات خطيرة على العراق والشرق الأوسط بأكمله.

كان بيان صالح بمثابة تذكير ليس للسعوديين فحسب، بل للولايات المُتحدة أيضًا، بأن لبغداد خصوصيةً، كونها وبشكلٍ فريد مهددة عندما يتعلقُ الأمر بالضغط الإيراني. فلدى إيران خطط واسعة في العراق، على الرغم من أن العلاقات بين الجيران شهدت صعودًا وهبوطًا، فقد اِستثمرت طهران عميقًا في العراق، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وستتضاعف هذه الاستثمارات على المدى القصير. إن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران جعلت من العِراق حلقةً أساسية في سلسلة التجارة المُحتملة لإيران. كيفيةُ تنفيذ مثل هذه الخطط، ستضعُ الإيرانيّين والعراقيّين وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترَمب على المحك.

المُعاملات التي لا تستخدم الدولار الأمريكي لا تحتاج إلى المرور عبر المؤسسات المالية المحظورةِ التعامل مع الكيانات الإيرانية. مما يساعد إيران على تجنب الصعوبات التي تواجهها في التجارة البعيدة

العقوباتُ التي فرضّتها إدارة ترَمب على إيران، في أواخر عام 2018 هي أشد العقوبات التي مرّت على البلاد مطلقًا. بكل المقاييس، لم تفاجأ طهران فحسب، ولكن صُعِقت على حين غرة، من دون خطة اِحتياطية. لقد عملِ الإيرانيّون على إقناع شركائهم الاقتصاديين الأوروبيين والآسيويين، بإنقاذهم من عقوبات ترَمب من خلال إبقاء القنوات التجارية مفتوحةً في إطار الإتفاق النووي، لعام 2015 الذي وقّعت عليه طهران مع الولايات المتحدة وخمس قوى عالمية أخرى. بدلاً عنهُ، اِختارت دولة تلو الأخرى، سياسةَ الأمر الواقع، وتجنب تحديّ العقوبات الأمريكية. كان التأثيرُ سريعًا وشديدًا: فقد اِنخفضت تجارةُ إيران مع الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي البالغ عددُها 28 دولة بنسبة 83 بالمائة تقريبًا من كانون الأول 2018 وإلى 2019. وأبرزها أن الأوروبيّين توقفوا عن شراء النفط الإيرانيّ، الذي كان تاريخيًا شريان الحياة لتجارة إيران مع القارة.

في البحث عن حلٍ عاجل، لجأت طهران إلى جيرانها المباشرين، تركيا وأفغانستان والعِراق، كشركاءٍ تجاريّين يمكنُ أن تساعد تجارتهم المُستمرة في تعويضِ الخسائر العميقة التي تفرضّها العُقوبات الأمريكية. عندما يتعلق الأمر بالإلتفاف على العقوبات، فإن الجغرافيا مهمة، ووفقًا لمنظمة ترويج التجارة الإيرانية، وهي مجموعة دفاع مرتبطة بوزارة الداخلية، في هذه المرحلة، لا يمكن أن تصبح العقوبات الأمريكية أكثر صرامة، والخيارُ الأمثل لإيران هو التركيزُ على تعزيز التجارة مع جيرانها. وحثّ الزعماء السياسيين في طهران على إعادة توجيه التجارة غير النفطية بالبلاد بعيدًا عن العملاء البعيدين لصالح أولئك الأقرب، بعد كل شيء، من بين المشكلات الأخرى التي خلقتها الولايات المتحدة للتجارة البعيدة لإيران، بعد إعاقت الشحن، وكف إيران عن تمويل وتأمين معاملاتها التجارية – ناهيك عن إمكانية إستلام عائدات صادراتها.

العراق يتلقي سياسيا بطهران، وبالتالي فهو مفتوح نسبيًا أمام الصادرات الإيرانية. تعمل بيروقراطية التجارة بشكلٍ أكثر سلاسة بين الاقتصادات المُرتبطة، فالمُعاملات التي لا تستخدم الدولار الأمريكي لا تحتاج إلى المرور عبر المؤسسات المالية المحظورةِ التعامل مع الكيانات الإيرانية. مما يساعد إيران على تجنب الصعوبات التي تواجهها في التجارة البعيدة. في حالة العراق، هناك علاقة إيرانية أعمق من القرب الجغرافي. للإيرانيين تأثير حقيقي على بغداد، ويمكنهم حشد الدعم من المسؤولين على أعلى المستويات، كما يتضح من تصريحات الرئيس صالح في اجتماع جامعة الدول العربية. العلاقات الاقتصادية القوية تدعم هذا النفوذ السياسي. في العقد الماضي، أصبح العراق أكبر سوق تصدير للبضائع غير النفطية لإيران. يبلغُ إجمالي التجارة الثنائية حوالي 12 مليار دولار في السنة، وترغب طهران وبغداد في زيادة المبلغ إلى 20 مليار دولار.

وفقًا لوزير النفط الإيراني بيجان زانجانه، فإن العراق لن يفعل أي شيء لمساعدة إيران للإلتفاف على العقوبات الأمريكية إذا كان ذلك يعني المخاطرة بالإنتقام الأمريكي. لعدةِ أشهر، رفضَ العراقيون دفع ثمن الغاز الطبيعي آلإيراني، معتبرًا أن العقوبات الأمريكية هي العقبة. كما يرفضُ العراقيون القيام بأي أعمال تنقيب وتطوير مشتركة في المناطق الحدودية، حيث عرضّت طهران العمل في الحقول المشتركة. انخفضت صادرات النفط الإيرانية من حوالي 2.5 مليون برميل يوميًا قبل عام إلى حوالي مليون الآن، فيما زادت بغداد من صادراتها النفطية بمقدار 250،000 برميل يوميًا.

ومع ذلك، استنادًا إلى تقارير إعلامية في طهران، ينظرُ التُجار الإيرانيون بشكلٍ متزايد إلى العراق كمحورٍ محتمل يمكنُ من خلاله توجيه سبيلهم التجارية الدولية – وهو دور اعتادت أن تلعبه دبي، لكن تماشيًا لعلاقتها مع الولايات المتحدة، وبسبب علاقاتها المتوترة مع إيران، اتخذت الإمارات العربية المتحدة إجراءات صارمة ضد التجارة الإيرانية، حيثُ رفضت منح التأشيرات للإيرانيين ورفضت الوصول إلى البنوك والتأمين، من بين تدابير أخرى. التجارة الثنائية بين البلدين تراجعت نتيجة لذلك، وتنظر طهران الآن إلى العراق، وبدرجة أقل، لعُمان كبدائل. كان تعويضُ الضغوط الأمريكية أولويةً قُصوى لحسن روحاني عندما زار بغداد في آذار. وقّع البلدان ما مجموعه 22 اتفاقية، ولكن الأهم، أن روحاني بعثَ برسالةٍ إلى واشنطن وحلفائها العرب -السعوديون والإماراتيون على وجه الخصوص- بأن إيران في العراق لتبقى.

أكد لقاء روحاني الشخصي مع أهم شخصية دينية في العراق، آية الله السيد علي السيستاني، وهو نادراً ما يلتقي بزعماء وساسة أجانب، مرةً أخرى، مدى النفوذ السياسي لطهران. جاءت زيارة روحاني في وقتٍ يقوم فيه الحُلفاء العرب للولايات المتحدة بتوسيع جهودهم لإبعاد بغداد عن طهران. الرأيُ السائد في إيران هو أن المملكة العربية السعودية قررت أن أفضل سبيل للتنافس في العراق ليست في مجال الأمن أو السياسة، بل الاقتصاد، حيث لدى السعوديين ما يمكن أن يقدموه وأكثر حرية مقارنةً بإيران. نشرت وسائل الإعلام الإيرانية دفقًا ثابتًا من القَصص حول المُبادرات الاقتصادية السعودية في العراق، يشعر الإيرانيون بأن السعوديين يلعبون بأجندة جديدة مناهضة لإيران في العراق – خطة غير واضحة نسبيًا ولكنها تُعقد حسابات طهران في وقتٍ تحتاجُ فيه إيران إلى العراق أكثر من أي وقتٍ مضى. مهما كانت علاقاتها مع العراق جيدة، فإن طهران تواجهُ دائمًا خطرَ المُبالغة في تقدير نفوذها.

عندما زار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي طهران في نيسان، قام المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، بتجنيده، وحثّه على إخراج القوات الأمريكية واليقظة تجاه النوايا السعودية. إذا كان يُنظّر إلى العراق على أنه يخدم أجندة إيرانية، فإنهُ يُخاطر بفقدانِ ثقة الشُركاءِ العرب، والتي تعود بعد عقد ونصف من القطيعة والعداء السافر، خاصةً في وقت تحاول فيه بغداد تحسين علاقاتها مع الدول العربية مع الحفاظ على تعاون وثيق مع واشنطن. قبل وصوله مباشرة إلى طهران، كان عبد المهدي قد عقد اجتماعات منفصلة في القاهرة وعمّان مع الرئيس السيسي والملك عبد الله الثاني.

العراقيون عازمون على تطبيع علاقات بلادهم مع العالم العربي، ولهذا السبب من بين أمور أخرى، يجبُ أن تكون طهران حذّرةً فيما تطلبه وفي مدياته، من العراق. إذا كان يُنظر إلى العراق على أنه يخدم. إن حملة "الحد الأقصى من الضغط" التي قامت بها إدارة ترَمب ضد إيران قد أثّرت بالفعل على بلدان أطراف ثالثة، كثير منها حلفاء للولايات المتحدة. لكن لم تتأثر أي دولة أكثر من العراق، ومأزقهُ يستحق الإهتمام والإنصاف الكامل من قِبل واشنطن، لأسبابٍ ليس أقلها أن للولايات المتحدة مصالح مستمرة في العراق. يجبُ أن تكون واشنطن شديدةَ الوضوح حول توازن القوى السياسية في بغداد، ويجبُ ألا تُقلل من شأن عدد الحلفاء الذين زرعتهم طهران بين الجماعات السياسية العراقية منذ عام 2003. إن إجبار الحكومة العراقية على الاختيار الصارخ بين الولايات المتحدة وإيران يمكن أن يأتي بنتائج عكسية خطيرة ضد أمريكا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.