شعار قسم مدونات

وكالات التصنيف الائتماني بين المؤامرة والحقيقة

blogs وكالة تصنيف ائتماني

منذ أن تأسست وكالات التصنيف الائتماني المعروفة (موديز – فيتش – ستاندرد أند بورز) وحتى الآن وهي مستمرة في إحداث تغييرات وتأثيرات أساسية سواءً كانت سلبية أم ايجابية في القرارات المالية والاقتصادية والاستثمارية للدول والمؤسسات الكبرى، فمجرد تقرير واحد من أحد هذه الوكالات الثلاث (والتي تحوز على حصة كبيرة من سوق التصنيفات الائتمانية وإصدارات الديون في العالم تتراوح بين 90 – 95 بالمائة) قادر على عمل تغيير شامل في الوضع الاقتصادي لأي دولة للأسوأ، والسؤال الآن هل هذه الوكالات الأمريكية تمتلك تلك النزاهة والمصـداقية والحيادية التي تجعل من قراراتها وآرائها وتقاريرها الفيصل الحكم والأكيد للوضع المالي للحكومات والشركات والمؤسسات؟

 

كانت هذه الوكالات الأمريكية المهيمنة محط اتهام من المفكرين والخبراء الاقتصاديين بعد فشلها في التنبؤ بالأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008، حيث قامت هذه الوكالات بخفض حجم مخاطر الاستثمارات العقارية في الولايات المتحدة، كما رفعت التصنيف الائتماني للبنوك الكبرى (التي تسببت بأزمة الرهون العقارية في 2008.). وهو ما أدى بالحكومة الأمريكية متمثلة في وزارة العدل الى رفع قضية قانونية ضد وكالة ستاندرد أند بورز (والتي تسيطر على 40 بالمائة من السوق) وتتهمها فيها بتضخيم تصنيف سندات الرهن العقاري رغم علمها التام بمدى خطورتها.

  

بعد هذه الحادثة قال اللورد بيتر ليفين، رئيس سوق التأمين في لندن، والمستشار الأول السابق لوزارة المالية البريطانية: "لقد خذلت وكالات التصنيف الائتمانية الاقتصاد العالمي في الماضي"، وهو ما يوضح ويشرح بالتالي الوجه الغير موثوق لهذه الوكالات، كما أن هذه الوكالات تعمل كمستشار خاص لبعض البنوك والشركات الكبرى، وهو ما يعني تضارب المصالح بين الاثنين خصوصاً بعد الأخذ بعين الاعتبار أن وكالات التصنيف هذه تحصل على أجرها وعوائدها من مصدري السندات أنفسهم وليس من المستثمرين كما كان في السابق في فترة السبعينات، حيث كان المستثمر يتوجه الى وكالات التصنيف ويدفع لها المال مقابل حصوله على تقرير تصنيف للسندات التي يرغب بشرائها، ولكن بعد انتشار آلات النسخ وقيام المستثمرين بنسخ المئات من التقارير وتوزيعها؛ تم تغيير آلية ونموذج عمل هذه الوكالات.

   

  

وقبل أكثر من عقدين هاجم المفكر والخبير الاقتصادي الأمريكي المعروف (توماس فريدمان) وكالات التصنيف الائتماني في مقال شهير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان (مآسي موديز) حيث انتقد فيه سطوتها واحتكارها بقوله: "برأيي، هناك اليوم قوتان عظيمتان في العالم. الأولى هي الولايات المتحدة أما الثانية فهي وكالة التصنيف الائتماني "موديز". يمكن للولايات المتحدة تدميرك من خلال إلقاء القنابل، في حين أن "موديز" بإمكانها تدميرك أيضاً ولكن من خلال خفض التصنيف الائتماني لسنداتك. وصدقوني، بالنسبة لي ليس واضحاً أيهما الأقوى".

 

وبالفعل؛ تعتبر آراء هذه الوكالات قاضية وحاسمة في أغلب الأحيان تماماً كرأي القاضي في المحكمة، حيث تسببت التقارير التي تصدرها هذه الوكالات في إفلاس العديد من الدول ومنها اليونان والبرتغال، بالطبع هي ليست السبب الوحيد لإفلاسها ولكن كان لها دور مهم جداً في ذلك، حيث تكون البداية من إعلان هذه الدول عن وضعها المالي السيء، وتدهور أوضاعها الاقتصادية، فتقوم هذه الوكالات بإعطائها تصنيف ائتماني منخفض بعد دراسة وضعها المالي، وهو ما يعني احتمالية عدم قدرة هذه الدولة على الوفاء بديونها؛ والذي يعني بطبيعة الحال ابتعاد الدائنين عنها، وتقليل احتمالية حصولها على تمويل وقرض من الدول الأخرى والشركات. ويبقى الحل الأخير للتمويل وهو صندوق النقد الدولي.

 

ففي اليونان على سبيل المثال؛ يشرح الدكتور حيدر حسين في كتابه (وكالات التصنيف الائتماني أداة للازدهار الاقتصادي أم للهيمنة الأمريكية؟) ويقول "خفضت «ستاندرد أند بورز» في نيسان 2010 تصنيف الديون السيادية اليونانية إلى درجة خطرة، ما أفقد المستثمرين ثقتهم باليونان وعمق الأزمة المالية في البلد، وأجبر الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي على تقديم رزم إنقاذ ضخمة إلى أثينا. وتكرر الأمر مع إيرلندا والبرتغال. وعرقلت الوكالة ذاتها جهوداً أوروبية لتحميل الدائنين جزءاً من ديون اليونان في النصف الثاني من 2011، إذ أعلنت أنها ستصنف أي خطوة في هذا الاتجاه على أنها توقف من جانب اليونان عن تسديد أقساط الفوائد المترتبة على ديونها. وجاء رد قوي من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قالت: «المهم ألا نسمح للآخرين بسلبنا قدرتنا على اتخاذ قرارات». ولم يتردد بعض الخبراء في تبني وجهة «ستاندرد أند بورز» بذريعة أن أي تحميل للدائنين ببعض الأعباء لا يعني فعلاً إعادة جدولة طوعية للديون من الدائنين .

   

كما ذكر أن أكثر ما يزعج الأوروبيين هو خضوعهم لتقييم وكالات لتصنيف الائتماني الأمريكي، التي قست كثيراً على تصنيف الملاءة المالية لبعض الدول الأوروبية، ومنها البرتغال واليونان؛ فقد كانت مفاجأة للأوروبيين وبعد كل الجهود التي بذلوها من خلال المفوضية الأوروبية أن تقوم وكالة (موديز) الأميركية بخفض على تصنيف السندات اليونانية إلى عديمة القيمة، وهو ما يعني أن مبالغ تلك السندات التي تمثل ديناً عاماً على الحكومة اليونانية لا تساوي حتى قيمة الورق الذي كتبت عليه تلك السندات!

  

وفي النهاية، هذه الوكالات ليست معصومة عن الوقوع في الأخطاء، كما أنه لا يصح أن يتم التعامل معها على أنها مؤامرة فقط. ورغم الاتهامات التي تدور حولها ولكن لا يجب أن يتم صرف النظر عن التقارير التي تصدرها بل يجب إعطائها الأهمية مع الأخذ بعين الاعتبار التثبت وأخذ رأي الأطراف المحايدة الأخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.