شعار قسم مدونات

قانون الإضراب بالمغرب.. استعباد مقنن للشغيلة

blogs الأساتذة

سنوات عديدة والمملكة المغربية تعيش بدون قانون منظم للإضراب إلى أن جاءت الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية فتجرأت على دعم وتقديم هذا المشروع القانوني إلى البرلمان، بالرغم من أن ذلك كان منصوصا عليه في الدستور المغربي منذ أعوام تنفيذا لمقتضيات الفصل 29، وبعد أن أُفرج بشكل متأخر عن هذا المشروع القانوني التنظيمي الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، تم إحالته على لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب في أكتوبر 2016 من دون ما أن تتم المصادقة عليه، ليعود من جديد إلى الواجهة هذه الأيام بعدما أقدمت وزارة التشغيل على دعوة المركزيات النقابية للتشاور الشكلي حول هذا المشروع القانوني رقم 97.15، في ظل اختلاف وجهات النظر بشكل واضح بين الحكومة ومجموعة من الفرقاء السياسيين والنقابيين.

 

وقبل الشروع في بيان العواقب الوخيمة التي تترتب عن فساد هذا القانون الرجعي حقوقيا والتراجعي مكتسباتيا، ينبغي الإشارة إلى الإغفال المتعمد للمنهج التشاركي في إقرار القوانين، مما يعني وجود نهج أحادي في الصناعة القانونية، بحيث أنه لم تتم صياغة ومراجعة هذا القانون بالمشاركة مع جميع الفاعلين المعنيين به كالمركزيات النقابية والشغيلة للوصول إلى التوافق الديموقراطي، وإن كان هناك ادعاء بالتمسك بالمقاربة التشاركية في الفعل الحكومي إلا أن ذلك باطل ولا أساس له في الواقع، فالحكومة القائمة على شؤون الدولة المغربية لا تبحث إلا عن مصلحتها بالدرجة الأولى بعيدا عما تتطلع إليه الأطراف الأخرى سواء تعلق الأمر بالإطارات النقابية أو الطبقة العاملة أو الاتحاد العام للمقاولات أو المجتمع المدني.

 

المصادقة على هذا القانون سيقضي عمليا على حق في الإضراب عن العمل بمنع أشكال كثيرة منها كالإضراب اللامحدود والتضامني، وأشكال أخرى ستكون مكبلة بشروط غير معقولة تجعل الإضراب غير ممكن

وسنتطرق هنا إلى معالجة مجموعة من التساؤلات الجوهرية أهمها: لماذا يعد مشروع القانون المنظم للإضراب في المغرب استعباد مقنن للشغيلة؟ وأين تتجلى أبعاده السلبية التي لها انعكاسات خطيرة تجعله مجرد قانون للمنع والتضييق أكثر مما هو قانون للتنظيم والتدبير؟ وما هو المطلوب لمحاولة إجهاض هذا المشروع القانوني الذي يجهز على ممارسة هذا الحق الكوني؟

 

ولئن كان الرق قد أُلغي منذ عهد بعيد، إلا أن هناك ممارسات أشبه بالرق ما زالت قائمة بيننا، كالتي تحاول ممارسته الدولة المغربية على مواطنيها من خلال قانون الإضراب الذي وضع لخنق أنفاس الشغيلة وتحويلهم إلى عبيد خانعين، والحكومة التي تسير البلاد حاليا ما هي إلا عصابة منظمة ومرخصة بالقانون تمثل نفسها ولا تمثل الشعب المغلوب على أمره، فهي مجتهدة في تطبيق توصيات الصناديق والمؤسسات المالية التي تقترض منها، ويريدون للطبقة الشغيلة عبودية مطلقة لإنتاج شعب يعشق الذل ويدافع عليه، ولا يقاطع ولا يرفض القوانين المهينة التي تفرض عليه الاستكانة لغيره والخضوع له خضوعا منحطا.

 

إن الإضراب حق إنساني مشروع لا ينتزع إلا ظلما وعدوانا، والمساس به هو تعد صارخ على حق الطبقة العاملة في الدفاع عن حقوقها، فالذي يشتغل في أية مهنة ليس مستعبدا ولا رعية بل هو مواطن حر له الحق في التمتع بحقوقه كما تم التنصيص عليها أمميا ودوليا من دون أي تقييد وتكبيل لثنيه عن التظاهر والاحتجاج الذي يقتضيه الإضراب، ومن دون ممارسة سياسة الاستقواء وتكريس الاستبداد عليه، فالمهضوم حقوقيا إضرابه أنجع وسيلة للمطالبة بحقوقه المشروعة لاسترجاعها كاملة.

 

ومن المعلوم أن منع ذوي الحقوق من حقوقهم سواء كانوا مستخدمين في القطاعات العمومية أو شبه العمومية أو الخاصة سيؤدي لا محالة إلى استعبادهم باسم القانون من طرف المديرين ورؤساء العمل وأرباب المقاولات، والأكثر سوءا من هذا أن ممارسة الإضراب سيصبح مراقبا قضائيا، وهذا كله تحت إمرة وتصرف الداخلية بكل مؤسساتها السلطوية التي تفرض تحكمها، وتثبت وقائع كثيرة صحة ذلك التحكم مرارا وتكرارا، بكل بساطة إنهم يُحوِّلون بهذا القانون الحق في الإضراب من أداة ضغط دستورية ومشروعة بيد الأجراء والموظفين للدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية وتحصين مكتسباتهم، إلى سوط في يد المشغلين ليستعملوه متى شاءوا حسب مصالحهم، في تناقض صارخ بين منطوق الدستور ومحتوى هذا القانون.

 

منذ متى كانت الدعوة إلى الإضراب تحريضا مادامت أنها ممارسة حقوقية صرفة ليس لها خلفيات غير المطالبة بالحقوق؟! ولا يكمن الخطر في المنع فقط بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى درجة اعتبار ممارسة حق الإضراب فعل جرمي، لهذا لم يكن قانون الإضراب في مستوى تطلعات الشغيلة التي تعتبره مجرد محاولة للإجهاز على مكتسباتها الحقوقية وبمثابة تراجع عن ما تم تحقيقه، هذا يعني أنه لن يفيد الطبقة العاملة في شيء وإنما سيضر بها فقط بتقييد حريتها المشروعة وحقها في الإضراب، والأمر الخفي أن هذا القانون يحمي الفساد والمخططات التخريبية ويرمي إلى تدمير ما تبقى من شبه الطبقة الوسطى التي هي ركيزة المجتمع وتضم: الأجراء والموظفين بالقطاع العام والقطاع الخاص، فهي تصارع وتكافح من أجل حماية ما تبقى من الحقوق، وتعاني الويلات لأنها بين نيران الطبقة الفقيرة المغيبة الوعي والتي تهول من ممارسة حق الإضراب وتخون كل ممارس له والطبقة الحاكمة لكونها تقرر ولا تناقش مع من يهمه الأمر أو المعني به.

 

وتتبين الدوافع الخبيثة من إخراج القانون التنظيمي للإضراب من خلال بنوده التي تنص على تقييد ممارسة الإضراب بشكل يتجاوز فيه الحد من السلطة، الشيء الذي يؤدي إلى إِهدار حقوق الموظفين والعمال بتدابير عنيفة وجائرة وبمعاملة قهرية تعسفية تجهز على ما تبقى من مكتسباتهم، بل إن الذي يقرأ محتوى هذا القانون لا يرى في استحضاره سوى تجريم للممارسة الحرة للإضراب الذي ينم على حس نضالي عال للمتضرر الذي يريد إنصافه بتوفير مطالبه العادلة والمشروعة، ولا يرمي وجود هذا القانون إلا إلى تحقيق مآرب سلطوية تخدم الجهات العليا المتحكمة في البلاد وتكون عونا للطرف المستخدم للطبقة العاملة ليمارس سلطته من دون قيد أو شرط وبلا أي اعتبار لحقوق الشغيلة، لهذا فالحكومة ترفض كل الدعوات التي تطالب بسحب هذا القانون من البرلمان وتجميده، وتحاول جاهدة التسريع من مسطرة المصادقة على مقتضياته وبنوده المجحفة التي لا نظير لها إلا في القرون الوسطى التي كانت تمارس فيه كل أشكال الاضطهاد والاستعباد.

 

لا يمكن تغيير الواقع في ظل السكوت المطبق الذي يجعل الكل متواطئ حكومة ومركزيات نقابية على تمرير قانون استعبادي لا مثيل له في تاريخ المغرب، ومنع المواطن المغربي من التمتع بحق كوني منصوص عليه

إن المصادقة على هذا القانون سيقضي عمليا على حق في الإضراب عن العمل بمنع أشكال كثيرة منها كالإضراب اللامحدود والتضامني، وأشكال أخرى ستكون مكبلة بشروط غير معقولة تجعل الإضراب غير ممكن، وما تبقى من أشكال الإضراب لن يكون لها أي مفعول لأن هذا المشروع القانوني يضع بيد رب العمل وسائل عديدة لإبطال مفعول الإضراب والحد من ممارسته، لهذا يريد أصحاب السلطة نزع حق الإضراب من الطبقة العاملة لما له من فعالية في تحقيق المطالب المشروعة، الشيء الذي سيؤدي إلى الإجهاز على ما تبقى من وسائل الدفاع ضد كل ما يضر بحقوق الشغيلة من استغلال وقمع وتهريب وتعسف وحرمان من العدالة الحقوقية والأجرية.

كما أن دخول هذا القانون لحيز التنفيذ سيمكن القائمين على تسيير شؤون البلاد من تمرير مخططاتهم المشؤومة بسهولة، والقضاء على النضال سيمهد لكثير من القرارات التعسفية وسيساعد كثيرا الدولة على خوصصة بعض القطاعات الحيوية، ولكن يبقى الهدف الأول من قانون الاضراب هو القضاء على التنسيقيات والجمعيات المهنية التي تحتج من أجل الدفاع عن حقوقها، ومحاولة القضاء على نضال الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، فهذا الأمر يخوفهم كثيرا لذا فهُم يحاولون بشتى الطرق منع الحركات الاحتجاجية المتنامية، والتي أصبحت محركا لا يستهان به للتظاهر المشروع، وكل ذلك يؤكد على أن شغلهم الشاغل هو البحث عن أسلوب قمعي أكثر فعالية، والذي سيجعل العمال والموظفون عبيدا تحت هيمنة اللوبي الرأسمالي الوطني وقرارات المؤسسات الرأسمالية الدولية.

 

ولعل المواثيق والقوانين الكونية التي انضم إليها المغرب تعارض قانون الإضراب الذي يراد المصادقة عليه، فلا قانون ضد القانون والاتفاقيات الدولية، لذا على الدولة المغربية الانسحاب منها ليُنزل قانون الإضراب الجائر الذي سيأتي على الأخضر واليابس في كل ما يتعلق بحقوق الشغيلة، والحكومة المغربية لا تريد بسياستها الحالية وضع قانون لتنظيم الإضراب يحفظ الحقوق ويواكب متطلبات العصر وتطوراته بل تسن القوانين وتبدلها حسب هواها وأهدافها السياسية، وإن استمر هذا ستصبح الدولة المغربية منبوذة في المجتمع الدولي، بل ولربما يصل الوضع بها إلى مستوى الطرد من جميع المنظمات والاتحادات والجمعيات والهيئات الحقوقية المعترف بها دوليا بما فيها منظمة الأمم المتحدة والشراكة مع الإتحاد الأوروبي، فالمجتمع الدولي لا يفضل التعامل مع دولة لا تحترم حتى مواطنيها حقوقيا وإنسانيا، ولن يعود المغرب قويا إذا تخلف الوضع الحقوقي فيه وانحدر إلى القاع.

 

ولا يمكن تغيير الواقع في ظل السكوت المطبق الذي يجعل الكل متواطئ حكومة ومركزيات نقابية على تمرير قانون استعبادي لا مثيل له في تاريخ المغرب، ومنع المواطن المغربي من التمتع بحق كوني منصوص عليه أمميا ودستوريا وفق قواعده المتعارف عليها، لذا فإسقاط هذا المشروع القانوني الذي يجهز على الحق في الإضراب ويجرمه لن يتم من دون الإتحاد بين جميع مكونات المجتمع المغربي، وإلا ستتم المصادقة عليه وبالتالي شرعنته، خصوصا وأن معظم القوانين الحاسمة والتعديلات الكارثية والقرارات المصيرية تمرر في وقت الفراغ السياسي، الأمر الذي ينم على تصرف عصاباتي غير مسؤول، لهذا يجب أن نكون لهم بالمرصاد كلحمة واحدة إذا أردنا رفض الاستعباد المقنن للشغيلة، والأمر الذي ينبغي أن تعرفه الحكومة المغربية أنه لا يوجد شعب يرضخ رضوخا أبديا؛ فلكل شيء حد ولا يمكن الاستمرار في معاينة الظلم من دون أية ردة فعل واعية تولد ضغطا شعبيا قويا حتى لا يحصل ما تخشى غوائله ولا تؤمن عواقبه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.